في واقعيّة الرأي العام العربي
يقف المدقّق في نتائج استطلاع الرأي بشأن الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وقد أعلنها الأسبوع الماضي المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على حزمةٍ من الدلالات (والمفارقات) الكاشفة، لعلّ من أبرزها الازدياد الملحوظ في الذين يروْن فلسطين قضية جميع العرب، من 76% في "المؤشّر العربي" المُنجَز في 2022 إلى 92%، في غضون الحرب، (النسبة الأعلى 97% في ليبيا واليمن، والأدنى في الضفّة الغربية 67%)، وتقترب النسبة المستجدّة العالية، إلى حدٍّ ما، من التي كان عليها الرأي العام العربي في هذه القناعة إبّان انتفاضات الربيع العربي، لمّا بلغت 84% في مؤشّري 2011 و2012 – 2013، قبل أن تتناقص في الأعوام التالية. ولئن تتعدّد القضايا المتّصلة بموضوعة الحرب الراهنة، ويسّر بشأنِها الاستطلاعُ معطياتٍ جوهريةً، فإن واحدَنا سيلتفت، على وجه الخصوص، إلى شعور 84% بضغطٍ نفسيٍّ إلى درجةٍ كبيرة جّرّاء الحرب على غزّة، والمستطلعون من 16 مجتمعا عربيا (عُمان والجزائر والسعودية والمغرب وقطر ومصر والسودان وليبيا والكويت وموريتانيا والأردن والعراق والضفة الغربية وتونس واليمن ولبنان). والمفارقة أن هذا الشعور يتوطّن لدى الناس في ليبيا واليمن (يبلغ في كلّ منهما 95%) بنسبة أكبر مما هو في الضفة الغربية (67%)، حيث النسبة الأدنى بين الجميع.
واحدةٌ من أهمّ خلاصات الاستطلاع، الذي كان إنجازُه مبادرةً ثمينةً من المركز العربي، أن الوجدان العربي الموحّد بهيٌّ كما هو دوما، عندما يعتنق المواطن العربي بثباتٍ ظاهرٍ رفضَه المعاهدات وعلاقات التطبيع مع إسرائيل، ومن ذلك أن 89% يعارضون إقامة هذه العلاقات (7% يوافقون)، وهي تقترب من نسبة 88% التي كانت في مؤشّر 2019/ 2020، قبل أن تهبط إلى 84% في مؤشّر 2022. غير أن شيئا من الحيرة، أو أقلّه التساؤل، قد يصيب الواحد منّا، عندما تتجاور هذه النسب التي تؤكّد المؤكّد، وتوثّقه، مع نسبٍ أخرى بشأن أسئلةٍ تتعلّق بالذي يمكن أن تقوم به الحكومات العربية من أجل وقف الحرب على غزّة، إذ فيما يتقدّم إلغاء كل العلاقات أو عمليات التطبيع مع إسرائيل أهم أول إجراءٍ على أي إجراءٍ آخر، إلا أنه لا يتجاوز 36%، وهي نسبةٌ قليلةٌ، في عُرف صاحب هذه المقالة، بالنظر إلى ارتفاع نسبة رفض أي علاقاتٍ عربيةٍ مع دولة الاحتلال. وفيما قد يُظنّ أن المواطن العربي يُؤثِر بنسبة أعلى إجراءاتٍ أشدّ تجاه دولة العدوان لتوقف الحرب، إلا أنّ الأمر ليس كذلك، فالمواطن العربي لا يتحمّس لتقديم مساندةٍ عسكريةٍ لغزّة، فهذا أهم إجراء أول بنسبة 8% وأهم ثاني إجراء بـ10%، كما هو الحال مع إعلان التعبئة العسكرية (5% أهم إجراء أول و6% أهم إجراء ثان)، وإذا ما انضافت هذه النتائج إلى خيار إجراء استخدام سلاح النفط من أجل الضغط على إسرائيل ومؤيديها، 19% أهم إجراء أول، 13% أهم ثاني إجراء، فإن في الوسع أن يُقال إن المواطن العربي واقعيٌّ، إلى درجةٍ ملحوظة، في الممكن من إجراءاتٍ يطلبُها من حكوماته التي يعرف حدود حركتها وفاعليّتها، فلا يدعوها إلى إجراءٍ عسكريٍّ ضد إسرائيل في قطاع غزّة، فيما هو الذي يرفض الاعتراف بإسرائيل بنسبٍ عالية، حتى إذا سُئل عن إلغاء علاقات التطبيع القائمة إجراءً لإيقاف الحرب يرى 33% في الأردن، ومثلهم في مصر، هذا إجراءً أول مطلوبا، وتتناقص النسبة إلى 29% في المغرب و21% في السعودية (النسبة الأعلى في الكويت 49%). ولا يرى غير 6% في الأردن أولوية إسنادٍ عسكريٍّ إلى غزّة، و11% في مصر (النسبة نفسها في السعودية). وبشأن النفط سلاحا تراه 15% في الأردن و10% في مصر و3% في السعودية.
لسنا في زمنٍ يرفُض فيه الملك فاروق توصية رئيس حكومته أحمد فهمي النقراشي بعدم مشاركة مصر في حرب إنقاذ فلسطين في 1948، ولا في زمن مجادلة كيسنجر مع الملك فيصل في 1973، عندما قطعت العربية السعودية النفط عن الولايات المتحدة (وغيرها)، فطلب الوزير الأميركي، مُمازحا، من العاهل السعودي وقودا لطائرته. إننا في زمنٍ تُحاول الدول العربية أن تكون فيه صليباً أحمرَ في غزّة ولا تفلح، فيما الحاكم العربي يُضمِر طلبا من المقاتلين في غزّة مثل الذي أفضى به معمّر القذافي للفدائيين الفلسطينيين في حصار إسرائيل بيروت صيف 1982 أن ينتحروا... يشتهي المواطن العربي لكل ناس قطاع غزّة النجاة، ويشيدُ بالمقاومة الباسلة فيها (أظهر الاستطلاع هذا)، ويرفُض التطبيع، لكنه واقعيٌّ، فلا يطلبُ من الحاكم العربي ما لا يقدِر عليه، بل وما لا يُريدُه أيضا.