في مديح التعصب الكروي!

15 ديسمبر 2020

(نصر ورور)

+ الخط -

نشر اللاعب المصري، أحمد حسام ميدو، صورة تجمعه بالكابتن محمود الخطيب. ميدو زملكاوي، والخطيب أحد أساطير النادي الأهلي، ومصر كلها تحبّ أن تلتقط صورة معه. التعليقات على الصورة في مواقع التواصل الاجتماعي حملت اتهاماتٍ لميدو بخيانة ناديه، والتقاط صورة مع واحد من الأعداء، وتدخلت نظرية المؤامرة لصياغة تصوّر كامل للخيانة، لماذا الخطيب؟ ولماذا الآن؟ لماذا رئيس النادي الخصم؟ ولماذا تأتي الصورة بعد طرد رئيس الزمالك السابق سيّئ الذكر مرتضى منصور؟ الصورة والتعليقات عليها "ماكيت" صغير لمعارك أكبر، تخوضها "نخب" رياضية، وأخرى ثقافية، تنتمي إلى الكتابة والصحافة والأدب والسينما، بالمنطق نفسه، وأحياناً "أهيف".
يرى مراقبون للظاهرة أنها من مظاهر التعصب، ويحاولون مواجهتها بشعارات مثل "لا للتعصب"، تخفي وراءها مزيداً من خطاب التناحر. وفي تقديري أن تشخيص الحالة بالتعصّب الرياضي، ومحاولة علاجها على هذا الأساس، محض استسهال، أو استهبال، على قدر وعي من يقول بها. ما يحدث الآن ليس تعصّباً، التعصّب نعرفه، وهو موجودٌ طوال الوقت، في مصر وفي غيرها، في الوطن العربي، وفي الغرب، إلا أنه أقل بكثير مما يحدُث في كرة القدم المصرية الآن، التعصّب مظلوم، فيما يأكل الظالم الحقيقي، ويرتع ويلعب.
ما يحدث هو حياة سياسية موازية، حياة كاملة، بكل تفاصيلها، السلطة والمعارضة، الأحزاب والمنافسة، مؤسّسات الدولة، الديمقراطية والديكتاتورية، العدل والظلم، التشارك والاستبداد، فصل الدين عن الدولة، والحلال والحرام في السياسة، تقابله البطولات الحلال والبطولات الحرام، والمؤامرة الكونية على مصر، ومصر مستهدفة، وحروب الجيل الرابع والخامس والعاشر، تقابلها المؤامرة على الأهلي من "بيراميدز" وفلوس السعودية وتركي آل الشيخ، والمؤامرة على الزمالك من الأهلي ومن الدولة ومن الحكام ومن الإعلام، والمؤامرة على عبد الفتاح السيسي تقابلها المؤامرة على مرتضى، والمظلومية التاريخية للإخوان المسلمين تقابلها المظلومية التاريخية لأجيال الزمالك، المضطهد دائماً وأبداً، وخطابات الوطنية والعمالة تقابلها خطابات نادي سعد زغلول ونادي فاروق والمختلط، والتضحية من أجل الوطن تقابلها تضحية الألتراس بالفعل من أجل ناديهم وشعاراتهم وسجنائهم وشهدائهم وثورتهم وانقلابات قادتهم عليهم، وهكذا.
لا أميل إلى التعالي على الناس بتوجيههم بأن ما يحدث تافه ولا يستحق، وبأنكم تضيّعون الأوقات والأعمار في ما لا يفيد، وبأن الكرة مؤامرةٌ كونية لإلهاء الناس. غير صحيحٍ أن كرة القدم تحجب رؤية مشجّعيها، وتُلهيهم عن حقوقهم وواجباتهم السياسية. فاز منتخب مصر بثلاث بطولات أفريقية قبل ثورة يناير، وتحوّل إلى مصدر للبهجة والحلم والأمل، وتحوّل لاعبوه إلى أساطير، ونزل الناس، وكنت معهم، إلى ميدان التحرير يهتفون بحياة اللاعبين ومدرّبهم، وظهرت صور تجمع جمال مبارك باللاعبين في معسكراتهم، وتصريحات للمدير الفني للمنتخب تشيد بالرئيس ودوره في تحقيق البطولات، وشعارات تجمع بين الكرة والسياسة، "وزي ما قال الريس منتخب مصر كويس". ثم قامت ثورة يناير، بعد ذلك، وعلى الرغم من ذلك، وكان أبرز المشاركين فيها أولتراس الأهلي والزمالك، الذين تعوّدوا نزول الميادين وتنظيم أنفسهم فيها، وكانوا أجمل من في ميادين الثورة.
تبدو لي كرة القدم مسكّناً لآلام الاستبداد السياسي. الإنسان، أي إنسان، متديّن بطبعه، لو لم يجد مقدّساً لاخترعه، وهو كذلك سياسي بطبعه، اجتماعي بطبعه، تشاركي بطبعه، نقدي بطبعه. لو لم يجد ذلك كله، فعليه أن يخترع بديلاً، وإلا هلك، وسواء اخترعه هو أو اخترعته الدولة له فهو مفيد، إلى حين، وجوده مهم، والإسراف في تناوله مميت. الفرق بين أحوالنا قبل ثورة يناير والآن هو فرق الاستبداد نفسه، كمّاً وكيفاً، وعلى قدر المرض يأتي العلاج. أيامها كنا نتخذ من الكرة بديلاً، ونتواطأ على ذلك، ننحاز ونحن نعلم أن الموضوع في الأخير لعبة، نتنافس ونحن نعلم أن الموضوع في الأخير "تنفيسة". أما الآن، فقد زادت وطأة الاستبداد، واشتدّ المرض، واحتاج إلى علاج أقوى، مسكّن أقوى، مخدّر، حشيش، أفيون. ولذلك صدّقنا أنفسنا، وحوّلنا اللعبة إلى دولة، ما نحتاج أن نخبر الناس به ليس نبذ التعصب، بل فهمه.