في قلب الظلام
على صخرةٍ متنحّيةٍ تشرف على مروج القمح والأحلام، يجلس فتى في نحو السادسة عشرة من عمره، يقلّب بصرَه بين كتابين: كتاب الطبيعة المشهود، وكتاب مطبوع بين يديه أكبر من سنّه، يفهم بعضَه ويستغلق عليه أكثرُه. وكان عليه أن ينتظر زمنا آخر، حتى ينكشف عنه حجاب المعاني فتتّسع صورة العالم على قدر اتّساع الرؤية. .. ولكن هل اتّساع الرؤية ومجالاتها جعله أكثر سعادةً واكتفاءً واحتفاءً بالحياة؟ بلى، كشفت له الرؤية جمالا لم يكن يُبصره من قبل، ولكنها كشفت من القبح مثله أو أكثر منه!
فنونٌ وآدابٌ عظيمةٌ تخلقت من قلب الألم والحيرة والبؤس واليأس. قصائد حبٍّ خالدة أشعلها الحرمان والرغبات المحبطة. شاعر لا تنجذب النساء كالفراشات إلى مصباحه، إلا لتحترق عليه... الأغنية لا تشبه مغنّيها! وشاعر آخر غنّى المرأة حتى صارت عنوانَه وشعاره وعلامته. فإذا أخضعتَ قصائدَه لتحليل الخطاب والنقد الثقافي، بدت المرأة، في أحيانٍ كثيرة، مرآة لنرجسيّته الذكورية، فهو الذات الفاعلة، وهي الموضوعُ الذي يتماهى مع قطعة السكّر التي يذوّبها في فنجانه.. هو صاحب الصوت والكلمات، وهي الأذنُ التي تستقبلها لتطير بها إلى فضاء الأوهام والأحلام الوردية. وهو سادنُ النار الذي لا تملك الأنثى إلا أن تحترق على صدره أو على دفاتر أشعاره! (وليس الحديث هنا عن الموهبة الفنية). وذاك شاعر كبير قضى شطرا طويلا من عمره متشرّدا في آفاق الثورة على الظلم والطغيان والاستغلال، ثم شهدناه يبذُل شعرَه بين أيدي السلاطين. بقيت البلاغة، وضاع البلاغ!
وما بال أولئك الأدباء الذين لا يواتيهم الوقوف على شقاء الفلسطيني وعذاباته، حتى يقدّموا نذورَهم وشموعَهم لضحايا المحرقة النازية بما يُضمر نبرة دفاعية اعتذارية، أو رغبةً في تحصيل القبول من نادي الليبرالية أو نادي الأممية اليسارية أو نادي القارئ العالمي. ولا خلاف على الموقف الإنساني المبدئي ضد النازية وجرائمها. ولكن لكل مقامٍ مقال. وفي مقتضى الحال الفلسطيني، لا تفتقر الضحية إلى مسوّغاتها الأخلاقية الذاتية وشرعيّتها الإنسانية المستمدّة من حاضرها وماضيها وعدالة قضيتها، ولا تحتاجُ أن تتوسّل بعض المسوّغات والتعاطف بالتعكّز على عذابات جلادها الماضية التي لم يكن لها سهمٌ فيها، وقد تغيّر تعريفُه، وتقمّص صورة جلاده النازي، ليسوط ضحيّته بالسوط الذي سيط به، ويوظّف محرقة النازية الماضية ليسوّغ بها تسعير محرقته الراهنة ضد الفلسطيني. وهذا ما ينبغي استحضارُه أولا في السياق الفلسطيني.
وهذا شاعرٌ وأديبٌ آخر، ما زال منذ دهر ينام على حلم جائزة نوبل، ويقدّم لها نذورَه وطقوسَه في معبد الحرّيات الإنسانية العابرة لحدود الثقافات، ثم يتكشّف خطابُه ومواقفُه عن مزاجٍ طائفيٍّ ضيقٍ لا يسع أبناء وطنه ولا أمته، وإنْ تموّه بالإنساني والتحرّري والتقدّمي والوجودي والصوفي الباطني الكوني، على وفق السياق المتقلب.
لا تحتاجُ الضحية أن تتوسّل بعض المسوّغات والتعاطف بالتعكّز على عذابات جلادها الماضية التي لم يكن لها سهمٌ فيها
وذاك روائيٌّ موهوبٌ رأى وطنه يحترق في صراعٍ تلبّسته الهويات الطائفية، فلم يكفر بها حتى بدا أنه ينفرُ من كل الهويات على الجملة، ويرى فيها منبت الشرّ والصراعات، ولا مخرج إلا بالترويج للمواطن الإنساني المتعالي على حدود الهويات. فاختار لرواياته أبطالا من هذا النوع، تتقاطع فيهم هوياتٌ ثقافيةٌ ودينيةٌ مختلفة. وأسرف في ذلك حتى تكاد تتوارى عن رؤيته الصراعات الحقوقية بين ظالمٍ ومظلوم، وغالبٍ ومغلوب، وغازٍ ومغزوّ، وطاغيةٍ وشعوب مقهورة، ومستغِل ومستغَل. فلا عجب أن ينتهي بالتطبيع مع الإعلام الصهيوني، لكأن الصراع العربي الإسرائيلي يندرج أيضا في صراع الهويات، وفي رفض قيم التعايش والتعدّدية وقبول الآخر، وإن جلَد ظهرَك واغتصبَ أرضك ووطنك. وهنا تكتمل المفارقة، إذ يتقاطع بقدرٍ ما غلوّه العقدي ذو الطابع الإنساني المفتوح مع الغلوّ الطائفي المغلق الذي فرّ منه، والذي دفع بعض التيارات الطائفية في بلده إلى التحالف مع العدو الصهيوني في أيام الجحيم الذي أحرق بلده.
وفي الفضاء العالمي، هذه مفكّرةٌ وأديبةٌ مرموقةٌ نذرت نفسها وقلمَها لتمكين الأنثى المقهورة في عالم ذكوري متحكّم، حتى إذا وقعت في غرام من هو منصرفٌ عنها، تذلّلت له تذلّل الضعيف العاجز، وأعلنت خضوعها لجبروت ذكوريّته المتعالية باسم الحب. وتركتنا نتساءل: أهي الازدواجية المستكنة في الطبيعة البشرية، تغلب علينا بأقدارٍ متفاوتةٍ بين الحين والحين، على قدر اختبارات الرغبة القاهرة وغواياتها المتسلّطة؟ أم هو ذلك الشرط الاجتماعي الذي يرسِم حدّا خفيا بين الخطاب العام والخطاب الذاتي الخاص؟ أم أن النصّ يتولّد من النصوص على مستوى من الوعي مستقلٍّ نسبيا عن حياة صاحب الشخصية وتجاربه؟ أم أن بعض الكتّاب والمفكّرين إذ يكتبون في قضيةٍ عامةٍ ترجع عليهم بالشهرة لا تلبث ذواتهم والصور التي شيّدوها لأنفسهم أن تتقدّم على الموضوع الذي يتحوّل إلى مطيّةٍ أكثر مما هو قضية، وإلى وسيلةٍ لتسويق الذات أكثر مما هو غاية، أو على الأقل يُزاحم هذا ذاك وينازعه!
وإلا، فما الذي يدعو كاتبةً أخرى من عالمنا العربي جمعت بين الفكر النسوي والهوى اليساري، إلى أن تنشر كتابا مصوّرا في الغرب يضم صورا لنساء بلدها في أجواء تراثية تحاكي أجواء الحريم في اللوحات الاستشراقية. ولم يكن ذلك رصدا عفويا، ولكنه كان استعراضا مسرحيا أعدّت عناصرَه بعنايةٍ للكاميرا، لتسويق تلك الصور النمطية لعقلٍ غربيٍّ ما يزال مفتونا بالشرق الغرائبي الذي شيّده في سياق علاقات القوة بين المركز المهيمن والأطراف. وبقدر ما يبعثه عالم الحريم الشرقي النمطي من القدح والهجاء على الصعيد الفكري السياسي الثقافي، فإنه يُشعل المخيّلة الجنسية والرغبات المحمومة التي تزيدها حُجُب الأسوار توقّدا وجموحا. وبهذا نبيع الغرب السلعة التي يطلبها خيالُه وتوافق صوره الذهنية المسبقة. فأين من هذا اليسار، وأين منه الكفاح النسوي!
نبيع الغرب السلعة التي يطلبها خيالُه وتوافق صوره الذهنية المسبقة. فأين من هذا اليسار، وأين منه الكفاح النسوي!
وما بال أولئك الكتّاب الذين يسرفون في استعمال مصطلح "السرديات" على نحوٍ يخلّ بمقاصده، ويعزله عن المنظومة الفكرية التي نشأ فيها. فالأصل فيه تحدّي الإطلاقية وادّعاء احتكار الحقيقة وسلطة المعيار المركزي المتغلّب الذي يدّعي الموضوعية، ويضفي على نفسه قيمةً حقيقية وصدقية مطلقة، ليخرج من ذلك إلى القيمة النسبية للسرديات المتخالفة في صراع المعاني والتأويلات والتعريفات. والغاية تأكيد الحريات والتدافع الحيوي والتعدّدية الفكرية والثقافية، والتحرّر من المرجع المركزي القاهر. ولكن الغلوّ يتحوّل به إلى النسبية المطلقة العدمية، وما يلبث أن ينحرف به من موضوع "الحقيقة" الاجتماعية الثقافية إلى موضوع "الحقوق"، حتى تميع الحدودُ بين الظالم والمظلوم، والغاصب والمغصوب، بدلا من أن يتحصّن المظلوم بسرديّته ويحاول أن يحشد عليها الناس، بينما يكافح بكل الوسائل الأخرى من أجل حقّه الذي لا يسعه أن يتخلّى عن يقينه به.
ومع تجنّب الوقوع في خطيئة التعميم، فإن الأمثلة كثيرة على التناقضات والمفارقات وازدواجية المعايير، والتقلّبات، والجوانب المعتمة في عوالم الأدباء والمفكّرين والفلاسفة، عبر التاريخ، وفي مشارق الأرض ومغاربها، تحجُبها الأضواء الباهرة التي تعشي الأبصار، أو ضلالات الأهواء ونزعات التوثين، أو التهرّب من مواجهة الحقائق وخيبات الأمل. أما شقاء العقل الفلسفي في البحث عن الحرية المراوغة التي يمكن أن ترتدّ أحيانا على نفسها وتسلم إلى نقيضها، فله حديثٌ آخر. أما الآن، فيكفي التبصّر في متاهات المشهد الذي نعايشه في أوطاننا، حيث ينتصب السؤال عن مواقف المثقفين وأصحاب الرأي من الاستبداد المقيم. وهم الذين ما فتئ الكثيرون منهم يشيدون صورَهم ونصوصَهم على موضوعات الحرية، ويقدّمون أنفسهم بوصفهم أبطال التنوير والتصدّي للممنوعات والمحرّمات وكواتم الصوت التي تتربّص بهم، ونحو ذلك مما صار أشبه بالكليشيهات المكرورة. وقد يتوكأ أنصاف المثقفين والموهوبين عليها بأسوبٍ فجٍّ مستفز، ليسوّق بها نصّا ركيكا، ويبتزّ بها قارئه وناقده. فأين هم من نظم الاستبداد وهبّات الشعوب المقهورة؟
هنا تجد نفسك أمام مشهدٍ عبثيٍّ يجتمع فيه الأضداد على تحصين المستبدّين: شيوخ السلطان، وسلفيون إلى جانب خصومهم الصوفيين؛ وعلمانيون بين ليبراليين متصهينين وقوميين وتقدّميين. يختلفون في خطاباتهم وذرائعهم باختلاف مراجعهم العقدية، ويتفقون على نزع الشرعية عن الانتفاضات الشعبية في جملتها. أما شيوخ السلطان على اختلاف أطيافهم فقد ألفنا خطابهم المكرور عن الحصانة الدينية لوليّ الأمر، وإن جلَد ظهرك وأخذ مالَك. أما أكثرُهم تحفّظا فيخوّفك من "الفتنة" التي هي أكبر من القتل.. وإذ هي كذلك، فقتل السلطان خصومه أهون الضرريْن. والديمقراطية، على أي حال، بدعةٌ مستوردةٌ من الغرب الكافر.
وأما الليبراليون الجدد، فلا يعنيهم من الليبرالية غير مظاهر السلوك الاجتماعي والتمرّد على القيم التقليدية، من دون الجانب السياسي المتمثل بالديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة والاحتكام إلى صناديق الاقتراع. وإذ يعلمون أن فرصهم فيها ضئيلة، فخيرٌ منها مستبدٌّ يتبنّى نهجهم ويُقصي خصومهم، ويفرض برنامجهم ولو بالعنف. فتراهم أشدّ الناس دعما للطغاة على ذلك الشرط.
وأما أصحاب الخطاب التقدّمي، أو شطر منهم على الأقل، فلا يبدو أن الاستبداد بمطلقه ما يؤرّقهم، وإنما هو الشعار السياسي والإيديولوجي المعلن الذي يميّز بين نظام موصوم بالرجعية والتبعية، ونظام آخر يتقابل مع السابق باسم التقدّمية والشعارات الثورية والقومية، وإن اجتمع الطرفان على الاستبداد والبطش وتكميم الأفواه والفساد ونهب ثروات الشعوب. وإذا كان شيوخ السلطان يروْن في الديمقراطية بدعةً غربيةً تتعارض مع مقتضيات الدين، فإن من هؤلاء العلمانيين التقدّميين من يرى أن الديمقراطية الليبرالية بدعة بورجوازية، بينما المطلب هو الديمقراطية الاجتماعية التي تتعرّف بالاشتراكية، وإن كانت في ظل نظام شمولي ذي قبضة حديدية! وعلى كل حال، للثورة الحقيقية في مذهب هؤلاء أشراطها التي لم تنضُج بعد. ومنها أن تقودها القوى التقدّمية حصرا مع إقصاء غيرها. وإذ لم تكن كذلك، وقد عمّت المستبدّين على اختلاف محاورهم وشعاراتهم، ولا سبيل إلى الانحياز إلى انتفاضة هنا ومعارضة انتفاضةٍ هناك، فلا مفرّ من اتهامها جميعا في رزمةٍ واحدة. وبذلك يدخل هذا "التقدّمي" في مربع واحد مع أركان الثورة المضادّة الذين ما فتئ يصفهم بالرجعية والفساد والتصهين والارتهان للقوى الاستعمارية، بل كذلك التآمر على محور الصمود والمقاومة.
ينام على حلم جائزة نوبل، ويقدّم لها نذورَه وطقوسَه في معبد الحرّيات الإنسانية العابرة لحدود الثقافات، ثم يتكشّف خطابُه ومواقفُه عن مزاجٍ طائفيٍّ ضيقٍ
أما أحسنهم طريقةً، فيجد مخرجا فقهيا مريحا، إذ يقرّ بأن النظام المعني مستبدٌّ وقبيح، ولكن أسوأ منه الثورة عليه في الظروف الملتبسة القائمة. وبعد هذه المقدّمة التي تبدو متوازنة، يجتهد القائل في صرف الأنظار عن توحّش النظام المستبد إلى عورات القوى المعارضة وخطاياها، متجاهلا أن هذا كله يرتدّ إلى أصل الاستبداد الرسمي وعنفه ورفضه كل مطالب الإصلاح والتحوّل الديمقراطي بالطرق السلمية، وأن العنف يولّد العنف، ويفتح الطريق إلى التدخّلات الخارجية على طرفي المواجهة سواء. وفي هذا السياق، يجري تغييب الشعب نفسه ومطالبه العادلة وعذاباته. وكأن الصدام من مبتدأه كان بين السلطة والقوى الخارجية الخصيمة المتآمرة، ولم تكن أسبابُه الأولى تعاظم الاستبداد والقمع والفساد على مدى عقود طويلة. وبمنطق الموازنة بين السيّئ القائم والأسوأ المحتمل، يتماهى المثقف العلماني مع منطق شيوخ السلاطين الذين إذا تخاجَل بعضُهم عن الدفاع عن جوْر النظام بإطلاق، لجأ إلى تحصينِه بالتحذير من فتنةٍ أعظم منه، واستدعى القاعدة الفقهية الأصولية: دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر، يُنزلها في غير منزلها.
ومن بين هؤلاء وأولئك، ناسٌ يتذرّعون بنار الغزاة المتربّصين لتحسين صورة الطغاة، متناسين أن الغزاة إنما مرّوا من سراديب الطغاة. عودة غير محمودة إلى ذلك الشعار القديم البائس: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وإن كانت المعركة المقترحة ليست غير شعارٍ لا حقيقة له في واقع الحال. إنما هي جعجعةٌ بلا طحن، أو هي جعجعةٌ على العدو، وطحن على الشعوب المقهورة. وقد اختبرنا هذا الشعار قديما، فخسرنا حرّياتنا السياسية طوْعا أو كرها، ثم خسرنا معاركنا مع العدو الخارجي في هزائم فاضحة فادحة واحتلالاتٍ جديدة. فلا نحن في العير ولا نحن في النفير! وأول ما يجني عليه هذا الخطاب القضية الفلسطينية نفسها، إذ يجعلها قناعا للاستبداد وذريعةً له، فيؤلّب الشعوب عليها وعلى ضحاياها. أو على الأقل يدفعها إلى هامشٍ مؤجّل بينما ينشغل ضحايا الاستبداد بعذاباتهم ودمائهم داخل أوطانهم. وفي الوقت نفسه، يمنح هذا التيار أطراف التطبيع والتفريط والتصهين ذرائع سياساتهم الغادرة. ومع هذا كله، تغيب الحقيقة الناصعة، وهي أن الشعوب المقهورة على أمرها داخل أوطانها لا تستطيع أن تحرّر أوطانا محتلة، ولا أن تواجه الغزاة، وأن مطلب التحرير يقترن شرطا بمطلب التحرّر والنهوض في داخل المجتمعات العربية.
بلى، مشهد عبثي، لا يفترق فيه الأضداد على مستوى الشعار والخطاب السياسي والولاءات الخارجية إلا ليجتمعوا على إجهاض أحلام الشعوب بالانعتاق والتحرّر من الطغاة والغزاة معا. وكل منهم يستمدّ مسوّغاته من عورات الآخر حتى ليبدو شرطا له. تعدّدت الأسباب والشعارات، وموت الشعوب واحد!
وكل ذلك يتقاطع مع سياسات الكيان الصهيوني وراعيه الدولي، بخلاف ما يروّجه الكثيرون من أن الانتفاضات الشعبية لم تكن غير مؤامرة دولية وإسرائيلية. فيا للعجب! كيف تكون كذلك، ومن تصدّر لإجهاضها هم أولياء أميركا وطلائع التطبيع؟ ما لهم كيف يحكمون! .. من يستطيع أن يواجِه الحقيقة؟ من يستطيع أن يتجرّد من الأهواء والأغراض والانتماءات القبلية الإيديولوجية ليعاين الحقائق المريرة؟ أم هي حقا فتنة يلتبس فيها الحق بالباطل كما يزعم بعض الشهود؟ وإذ هي كذلك، فيستوي فيها أطراف المواجهة بالمعيار السياسي والأخلاقي. وليس مفهوم الفتنة في هذا السياق غير مخرجٍ أو حيلةٍ عقليةٍ فقهيةٍ للتستّر على الاستبداد.
الليبراليون الجدد لا يعنيهم من الليبرالية غير مظاهر السلوك الاجتماعي والتمرّد على القيم التقليدية، من دون الجانب السياسي المتمثل بالديمقراطية والتناوب السلمي على السلطة
لا أيها السادة.. ليس ثمّة فتنة ولا التباسات ومشتبهات في واقع الحال. إنما الالتباسات نتاج عقولكم التي ما زالت منذ دهر تصطنع الثنائيات المتفاصلة لتبطُل إحداها بالأخرى. لا خيار بين الغزاة والطغاة. كلاهما شرطٌ للآخر. ولا خيار بين الطغاة على اختلاف شعاراتهم ومسوّغاتهم وخطاباتهم وانحيازاتهم إلى شرق أو إلى غرب، فكلهم طغاةٌ وملّة واحدة: أسود على شعوبهم وفي الحروب نعامات. ولا خيار بين غزو من الشرق وغزو من الغرب، فكلاهما غزو، ولقد يسلّم أحدُهما فريستَه للآخر. والتاريخ شاهدٌ لمن ألقى السمع وهو بصير. لا خيار بين توحش الإرهاب الداعشي وتوحش الإرهاب الرسمي، فالرصاصة واحدة، والقتيل واحد. وكلا التوحشين يغذي الآخر ويموّه عليه. أحدهما سبب الانتفاضات الأول، والثاني اختطفها، فكان بمثابة طوق النجاة للأول فخدمه كما لم يخدمه حلفاؤه وزبانيته! والحال أن هذه الثنائيات المتفاصلة ظاهرا، كلٌّ منها شرطٌ للآخر في الحقيقة والواقع. ألم يئن الوقت للتحرّر من أسر هذه الثنائيات التي تتقاذفنا بين النار والنار؟
وليس الخيار كذلك بين الديمقراطية الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية التي تتعرّف بالعدالة الاجتماعية الاقتصادية. هل يجب أن نبطل إحداهما بالأخرى، لنجد أنفسنا أخيرا نقبض الريح، فلا هذا ولا ذاك؟ ألا يجتمعان؟ هل يجب أن نضحّي بالحريات السياسية المدنية وفكرة التناوب السلمي على السلطة بدعوى العدالة الاجتماعية في ظل حكمٍ شموليٍّ قاهر؟ وفي المقابل: ألا يمكن تحقيق الديمقراطية إلا في ظل الاستغلال الرأسمالي والتبعية للمركز الغربي الإمبراطوري؟
والحال في بلادنا أن نظم الاستبداد، على اختلاف وجوهها وشعاراتها، ملّة واحدة، فلا هي في الديمقراطية الليبرالية ولا هي في الديمقراطية الاجتماعية. وكلها محكومةٌ بنخبٍ محدودةٍ تحتكر السلطة والثروة معا، وإن رفع بعضُها شعارات القومية والتقدّمية والاشتراكية. أما الغرب الذي يتفاخر بديمقراطيته، ويزعم أنه منارتها في العالم كله، فيفضّل مستبدا تابعا يمتثل لإملاءاته بقرار فوري قسري من رأس النظام، من دون الدخول في تعقيدات الاحتكام إلى مؤسساتٍ ديمقراطية حقيقية تمثل الشعوب. .. فإن كان لا بد، فلا بأس بمؤسسةٍ ديمقراطيةٍ شكلية يصنعها المستبدّ على صورته، ولا تزيد مهمتها على تشريع قراراته وتأبيد طغيانه وشيطنة معارضيه. فإذا بلغ من البطش ومصادرة الحريات ما يُحرج سيده الغربي أمام المنظمات الحقوقية، فطلب منه على استحياء أن يراقب حقوق الإنسان في بلده، لم يسع الطاغية أن يتقبّل ذلك العتاب الودّي الرقيق الخجول من سيّده، فيرسل كلابه النابحة على الغرب الذي يدين له، يستدعون جرائمه ونفاقه بما لا يؤهله لبذل النصائح، ويؤكّدون استقلال القرار الوطني، وأن أهل مكّة أدرى بشعابها، ويذكرون بالخصوصية الثقافية المحلية التي لا ينبغي أن تحتكم لثقافة الديمقراطيات الغربية! نرضى بالتبعية والتغريب في كل أمر، إلا في الديمقراطية والحريات السياسية. عندئذٍ فقط، نستذكر خصوصياتنا الثقافية لتسويغ الطغيان ووأد الحريات. فلنا من الغرب أسوأ ما فيه، ولنا من خصوصياتنا المدّعاة أسوأ ما فيها! ولسان الحال: شعوبُنا غير مؤهّلة للديمقراطية والمشاركة السياسية والتناوب السلمي على السلطة، فهذا يكافئ الفوضى عندنا.
لا خيار بين الطغاة على اختلاف شعاراتهم ومسوّغاتهم وخطاباتهم وانحيازاتهم إلى شرق أو إلى غرب، فكلهم طغاةٌ وملّة واحدة
وقد يذكّر هذا المعنى ببعض ذرائع الاستعمار القديم في أن الشعوب المستعمَرة (بفتح الميم) ليست مؤهلةً لحكم نفسها، وأن على الرجل الأوروبي الأبيض عبء تحضيرها باستمرار هيمنته. ولكن المخزي حقا أن يكون هذا الآن منطق الأخ الأكبر المحلي في شعبه! والأكثر خزيا أن نجد شطرا من النخب المحلية يُشاطره الرأي، لاقتران مصالحهم به، أو خشية أن تأتي الديمقراطية بخصومهم الإيديولوجيين. والخصومة الإيديولوجية ذات الطابع القبلي مقدّمةٌ على الخصومة مع الطاغية! فإن لم يكن إلا حكم الدولة الأمنية أو حكم الخصيم الإيديولوجي عبر العملية الديمقراطية، ولو كان حكما موقوتا بموعد الاقتراع التالي، فلتذهب الديمقراطية إلى الجحيم، إلا أن يجري أولا إقصاء الخصم العقدي، قبل فتح الطريق إلى عمليةٍ ديمقراطيةٍ تقتصر على هؤلاء. ويغفلون عن حقيقة أنه في ظل الاستبداد ليس لغير المستبدّ نصيب، وأنه يتقلّب بين الخصوم الإيديولوجيين، فأيهما كان الأخطر في وقت ما استعمل عليه خصمه، حتى إذا فرغ من الأول ذهب بالثاني، وأن التعدّدية وحدها هي الضمان لكل أطرافها، وأن ذهنية الإقصاء تعمل في كل الاتجاهات، حتى يلغي الأطراف بعضهم بعضا، ويبقى الطاغية وحده، وأن التدافع السلمي الحيوي بين المواقف والاتجاهات المختلفة شرطٌ اجتماعيٌّ للتقدّم والعمران، ولولاه "لفسدت الأرض" و"لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا". كما جاء في كتاب الله، وأن الاستغناء عن الآخر يُفضي إلى الطغيان "كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، وأن وجودك يتحقق ويتعرّف بوجود الآخر المختلف، فإذ تنفيه تنفي وجودك نفسه. وقد علّمنا علم اللسان الحديث أن المعنى لا يوجد إلا بالتقابل، وأقله زوجان Minimum Pair ، فلا معنى للذكورة بغير الأنوثة، ولا الأنوثة بغير الذكورة. تلك مسألة وجودية في جوهرها. والحقيقة أن نزعة الإقصاء المتبادل في القبائل السياسية الشعبية، حتى المعارضة منها، يشي بأن كلا منها مشروعُ استبدادٍ آخر.
عند هذه النقطة، يجد المتفكّر نفسه يغرق في التشاؤم. ويكاد أن يحسد الفتى الذي كانه إذ هو جالسٌ على تلك الصخرة المتنحّية، يقلب بصره بين الكتاب الذي بيده، وبحر السنابل المتموّجة في السهل أمامه، تغمره متعة الكتاب المقروء، على ما يحتجب من معانيه، ومتعة الكتاب المشهود الذي لا يحتاج إلى تأويل. وتتراءى له عند خط الأفق عمائر المدن التي لم يزرها بعد، والشواطئ التي لم يخبط على رملها بعد، والنساء اللواتي لم يعشقهن بعد، والأبطال الذين لم يطُل إلى قاماتهم بعد!
ذهبت حقول القمح، وجفّت جداول الماء، واختفى قطيع الماعز من سفح الجبل، وصمتت الحملان. والمدن العظيمة الصاخبة التي زارها في مشارق الأرض ومغاربها تبدّد سحرها، والنساء الواعدات الموعودات أخلفن مواعيدهن، والشواطئ الجميلة خطفها المترفون، والشواطئ المهملة دمّرتها نفايات المهمشين، والأبطال الحقيقيون ذهبوا طيّ النسيان، بلا شواهد على قبورهم، وآخرون ترجّلوا عن خيولهم، أو انحازوا بها إلى الجبهة الأخرى.
والقلوب التي كانت تضيء بمصابيح الأمل غدت معتمة. نفقٌ يسلم إلى نفقٍ إلى سردابٍ لم تزره الشمس يوما.. أهذا قلب الظلام؟
فيا للرعب! يا للرعب!