في فهم رهانات أردوغان الاقتصادية على الخليج

09 يوليو 2023

أردوغان متحدثا في الجناح التركي في "إكسبو" دبي (15/2/2022/فرانس برس)

+ الخط -

في وقت يتربّع فيه الاقتصاد على قائمة التحدّيات الصعبة التي تواجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ولايته الرئاسية الجديدة، لم يكن مفاجئاً أن يُرسل قادة فريقه الاقتصادي الجديد إلى الإمارات، في أول رحلة خارجية، سعياً إلى جذب مزيد من الاستثمارات الإماراتية والعملة الصعبة التي تشتدّ حاجة تركيا إليها. تكشف زيارة نائب أردوغان للشؤون الاقتصادية ووزير المالية الجديد أبوظبي، إلى جانب الجولة التي يعتزم أردوغان القيام بها، الإمارات والسعودية وقطر، رهانات أردوغان المرتفعة على العلاقات الجديدة مع منطقة الخليج وسيلة لإنجاح سياسته الاقتصادية الجديدة. إذا كان من شيء يُساعد في تفسير واضح لسرّ التحوّل السريع في علاقات أنقرة مع الخصمين الخليجيين السابقين، أبوظبي والرياض، من مرحلة التنافس المضطرب إلى العلاقات الدافئة، فهو الاقتصاد. بالقدر الذي استخدم فيه الاقتصاد وسيلة تحفيز لدى أنقرة وكل من أبوظبي والرياض لتجاوز الخصومة التي امتدّت على ما يقرب من عقد، فإنه يعمل حاليا على تشكيل العلاقات التركية الخليجية بطريقةٍ تؤدّي إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية.

يُشير السياق الذي سارت عليه العلاقات بين تركيا وكل من الإمارات والسعودية منذ إعادة إصلاح العلاقات قبل نحو عامين، إلى أهمية الاقتصاد في تشكيل أرضيةٍ من الثقة على مستوى القادة. بينما وجدت الرياض وأبوظبي في العقد الماضي صعوبة في احتواء السياسات التركية الإقليمية، فإنها أدركت، في العامين الأخيرين، أهمية قوتهما الاقتصادية في دفع أردوغان إلى التفكير بمزايا إصلاح العلاقات معها. يُمكن بوضوح ملاحظة فعالية القوة الناعمة السعودية والإماراتية في تغيير مسار العلاقات مع تركيا. إلى جانب الودائع المالية التي وضعتها أبوظبي والرياض في البنك المركزي التركي في الأشهر الأخيرة، والبالغة نحو 10 مليارات دولار، أبرمت أنقرة وأبوظبي اتفاقيات شراكةٍ اقتصادية شاملة. كما أضحت المصارف الإماراتية أكبر المقرضين الأجانب لنظيراتها التركية. على سبيل المثال، قام مصرفا أبوظبي التجاري والإمارات دبي الوطني بترتيب 61% من إجمالي القروض إلى بنوك تركية في النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بحوالي 15% خلال الفترة نفسها قبل عام. وقد ساعد هذا الانفتاح الاقتصادي السعودي والإماراتي على تركيا أردوغان في الحدّ من تأثير الصعوبات الاقتصادية على حظوظه للفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أخيرا.

يُشير السياق الذي سارت عليه العلاقات بين تركيا وكل من الإمارات والسعودية منذ إعادة إصلاح العلاقات قبل نحو عامين إلى أهمية الاقتصاد في تشكيل أرضيةٍ من الثقة على مستوى القادة

يتطلع أردوغان إلى جذب استثمارات خليجية إضافية بقيمة 25 مليار دولار من دول الخليج عبر قنوات مختلفة، بما في ذلك الخصخصة والاستحواذ. ولم يكن بالإمكان تصوّر هذا التصاعد في زخم العلاقات الاقتصادية بين تركيا وكل من السعودية والإمارات على الإطلاق في الفترة التي كان فيها التوتر يسود العلاقات بين الطرفين. هناك أسباب واقعية كثيرة تدفع أردوغان إلى رفع رهاناته الاقتصادية على العلاقات الدافئة مع منطقة الخليج. علاوة على ما تُشكّله منطقة الخليج من مصدر مهم للعملة الأجنبية والمشاريع الاستثمارية الضخمة التي يُمكن أن تُساعد الاقتصاد التركي على إعادة النهوض، فإن هذه الاستثمارات أضحت على نحو متزايد بديلاً لتركيا عن الاستثمارات الغربية، التي يبدو من الصعب إعادتها إلى تركيا في ظل الحلقة المفرغة التي تدور فيها العلاقات المتوتّرة بين أنقرة والغرب. في وقتٍ تبدو فيه الأثمان السياسية لتوطيد العلاقات التجارية والاقتصادية مع منطقة الخليج أقلّ على تركيا مقارنة بما هو الحال عليه مع الغرب، فإن استراتيجية أردوغان الاقتصادية، التي تتمحور بشكل أساسي حول العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الخليج، تهدف، في جانب منها، إلى التحرّر بقدر أكبر من اعتماد الاقتصاد التركي على الغرب، لا سيما في مجال الاستثمارات. يفترض أردوغان أن هذه الاستراتيجية وسيلة لتكريس نهج الاستقلالية في السياسية الخارجية عن الغرب.

بالنسبة للإمارات والسعودية، يتجاوز تعزيز العلاقات الاقتصادية مع تركيا المنافع الاقتصادية التي سيجنيها البلدان، والتي تكتسب، بطبيعة الحال، حاجة لهما بالنظر إلى الأهمية المتزايدة للسوق التركية، إحدى أقوى الأسواق الناشئة. وفي إطار التحولات التي طرأت على سلاسل التوريد العالمية بعد الحرب الروسية الأوكرانية، يُمكن النظر إلى القوة الاقتصادية للرياض وأبوظبي على أنّها إحدى وسائل القوة الناعمة التي تسعيان من خلالها إلى خط ود تركيا ودفعها إلى التخلي عن سياسات التنافس الإقليمي خلال العقد الماضي. مع ذلك، فإن تزايد الاعتماد التركي على الخليج مصدرا رئيسيا للاستثمارات والعملة الصعبة سيجعل السياسة التركية الإقليمية مُقيدة بالعلاقات الجديدة الناشئة مع الخليج. لم تعد سياسات التنافس السابقة جذابة في الوقت الراهن لكل من تركيا والسعودية والإمارات، لأن الظروف الإقليمية تغيّرت إلى حد كبير في العامين الأخيرين، مقارنة بما كانت عليه في العقد الماضي. كما أن أنقرة وكلاً من الرياض وأبوظبي تنظران إلى العلاقات الجيدة أنها حاجة للتكيّف مع الوضع الإقليمي الجديد، الذي يفرض على الفاعلين الرئيسيين في المنطقة التركيز على مزايا التعاون، لتحقيق الاستقرار الإقليمي والحدّ من أضرار الاضطرابات التي عصفت بالمنطقة بعد الربيع العربي.

تتجاوز مزايا العلاقات الدافئة بين تركيا ومنطقة الخليج في الواقع المنافع الاقتصادية المتبادلة والمكاسب السياسية المفترضة لكليهما

بينما تُساعد دول الخليج تركيا على التحرّر نسبياً من الغرب في سياساتها الخارجية عبر منحها خيارات اقتصادية بديلة، فإن تركيا تُساعد الخليج أيضاً على تعزيز نزعته الاستقلالية الجديدة في سياسته الخارجية والإقليمية عن الولايات المتحدة. بهذا المعنى، فإن الأدوات الاقتصادية التي تُستخدم في الوقت الراهن بوابة لتعزيز الوضع الجديد في العلاقات التركية الخليجية تعود بالمنفعة على الطرفين في الاقتصاد والمجالات الجيوسياسية أيضاً. والأهم أنّ أثمانها السياسية تبدو معقولة للجانبين طالما أنّهما يحترمان المصالح الإقليمية لبعضهما بعضا.

تتجاوز مزايا العلاقات الدافئة بين تركيا ومنطقة الخليج في الواقع المنافع الاقتصادية المتبادلة والمكاسب السياسية المفترضة لكليهما. تتطلع دول الخليج على نحو متزايدٍ إلى الاستثمار في صناعات الدفاع التركية وشراء الأسلحة التركية المتطوّرة، مثل طائرات بيرقدار المسيّرة. أخيرا، أبرمت الكويت عقوداً مع تركيا لشراء دفعة من هذه الطائرات. كما تُجري الإمارات وتركيا مفاوضات منذ مدة لإنشاء شراكات في مجال الصناعات الدفاعية. ومن المرجّح أن تحذو السعودية أيضاً حذو الإمارات في عرض الاستثمارات في مجال الصناعات الدفاعية التركية وشراء بعض الأسلحة التركية وسيلة لتخفيف الاعتماد السعودي على الأسلحة الأميركية، التي أصبحت باهظة بقدر أكبر من حيث التكاليف السياسية. لا يمكن عزل العلاقات الجديدة بين تركيا والخليج عن سياق التحولات التي طرأت على منطقة الشرق الأوسط في العامين الأخيرين. ويُمكن القول إن هذه العلاقات هي أحد الأعمدة الرئيسية للنظام الجديد الذي يتشكّل في المنطقة، كنتيجة للاتجاه المتزايد للولايات المتحدة لتخفيف ارتباطها في الشرق الأوسط، تجد تركيا والخليج في الشراكات الجديدة وسيلة للتكيّف مع عصر شرق أوسطي جديد سيلعبان فيه دوراً رئيسياً في الجغرافيا السياسية الإقليمية الجديدة.