في عودة الدكتورة عفاف راضي
... إذن، لم يكن جمال عبد الناصر زعيما بمنزلة رئيسٍ فقط، وإنما كان أيضا ذا حدْس في سماع المغنّين والمغنيات. يقول محمد حسنين هيكل ليوسف القعيد إن الرئيس لفت نظرَه إلى صوتٍ سمعه في الإذاعة لموهبةٍ اسمُها عفاف راضي. قال له "صوتُها فيه حاجة من فيروز"، وطلب اهتماما بها، "وفّروا ليها ملحنّين كوّيسين يمكن تصبح فيروز أخرى". لا أحسبُ أن بليغ حمدي كان على درايةٍ بهذا الذي قاله عبد الناصر، عندما انشغل كثيرا، بدءا من العام 1970، بالشابّة ذات الثمانية عشر عاما، وراقه كثيرا صوتُها، ولحّن لها "ردّوا السلام" التي كانت انطلاقتها القوية، بعد بداياتٍ لها في برامج للأطفال وأغنياتٍ لم تلق رواجا، بل ويسّر لها أن تغنّي في حفلٍ يغنّي فيه عبد الحليم حافظ، ويقود بليغ نفسُه الأوركسترا وهي تغنّي، ثم "يحتكرها" خمس سنوات، ويلحّن لها في رحلتها حوالي 60 أغنية. راهن هو أيضا على أن تصير عفاف راضي (68 عاما)، مطربة الطفولة العفيفة والأحاسيس البريئة، بحسب وصف صديقنا بلال فضل، فيروز مصر، وقد كان يدرّبها، إبّان تلك البدايات، على تأدية الموشّحات وأغنياتٍ لفيروز. ولدى بليغ غصّةٌ عميقةُ في داخله، منذ 1964، لمّا سافر إلى بيروت، بنيّة تأدية "قيثارة السماء" أغنياتٍ من ألحانه، وهو الذي كانت أم كلثوم قد غنّت له، لكن "سياج" الأخوين رحباني حال دون أن تتحقّق له رغبته. وقد ذكرت عفاف راضي أن الرحبانيَّيْن استمعا إليها وهي تلميذةٌ في معهد الموسيقى بالقاهرة، في فندقٍ طلبا منها زيارتَهما فيه، بعد أن التقياها في المعهد. ما صنعه بليغ مع تلك الشابّة أنه أزال من ذهنها فكرة الاستغراق في الغناء الأوبرالي، الأوروبي غالبا، وكانت ميالةً إليه، وأخذها إلى الإفادة من هذا المزاج لصالح الأداء الشرقي الذي صارت فيه لاحقا "عصفورة الغناء المصري"، في واحدٍ من أوصاف الصحافة لها. راهن بليغ على أن تكون عفاف راضي فيروز مصر، وربما راقَ لها هذا، بدليل أنها في 1982 أدّت مسرحية "الشخص" الفيروزية (1968)، وقد مصّرها أمل دنقل، ولحّن الأخوان رحباني أغنياتٍ فيها.
لم يتحقّق ما أملَه عبد الناصر، ولا رهان بليغ حمدي، في أن تصير عفاف راضي (نالت الدكتوراة في الموسيقى) فيروز مصر، لأسبابٍ شرحُها يطول، ولم يكن في الوسع أن يصير. وأظنه صحّ قول الدكتورة إن بليغ لم يفكّر في الأمر على هذا النحو، إلا أن الملحن الغزير، هجس، على الأرجح، بشيءٍ من هذا في واحدةٍ من أطوار تجاريبه (المفردة جائزة) العديدة والمتنوّعة، سيما في بعض ألحانه لها (أغنية "لمين يا قمر" في 1974، مثلا). أمّا الذي صار فهو أن عفاف راضي استطاعت أن تكون واحدةً من حبّات زمنٍ غنائيٍّ عربيٍّ جميل، في السبعينيات، وبعض الثمانينيات، وإنْ يجوز قول من سيقول إنها جاورت وردة ونجاة وفايزة أحمد (دعك من صباح) ولم تُنافسهن، لكن مطرحا مقدّرا لها بينهن، سيما وإن لصوتها سمْتَه الطربيّ المختلف، والذي تألّق في تلحينات بليغ (وغيره تاليا)، وفي أغنياتها في الفيلم الرائق "مولد يا دنيا"، مع محمود ياسين (1976)، حيث الدفء والحنان الظاهران في أدائها، الموشّى بشيءٍ من أوبراليةٍ تختفي وتتجلّى.
أما استدعاء عفاف راضي هنا فمناسبته إطلالتها في حفل غنائي ساهر في 16 سبتمبر/ أيلول الحالي، في مسرح النافورة في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، إحياءً لذكرى رحيل بليغ حمدي (1993)، حيث غنّت فيها من ألحانه 12 أغنية، بعد أغنياتٍ أخرى له أدّاها شبّان موهوبون، وشاركت أيضا ابنتها مي كمال. كان إشراقةً طيبةً حضورُ هذا الصوت القادم من زمنٍ دافئ حقا، ضجّ بالمواهب الكبرى. وقد قالت السيدة عفاف راضي إنها ابتعدت سنواتٍ كثيرة (أزيد من عشر) عن الجمهور لأن "المناخ" ليس مناسبا. وطيّبٌ أنها أوضحت أنها لم تعتزل. وغير طيّبٍ منها أن تكريم بليغ حمدي لم يكن المناسبة الأولى الرائقة لـ"عودتها" إلى الجمهور، وإنما الغناء على خشبة مسرح الأوبرا في دار الأسد للثقافة والفنون، ضمن معرض دمشق الدولي، صيف 2019. وكان هذا مبعث عجب، واستهجان أيضا، سيما وأنها غادرت إلى العاصمة السورية، فيما الأحوال معلومةٌ هناك، وبمعيّة مدّاحة الأسد التي أشهرت هناك تشبيحا غير مرّة، إلهام شاهين. لم يعجبنا هذا، ولا مبالغاتُ الدكتور عفاف راضي في مديحها تكريم قرينة عبد الفتاح السيسي لها، في يوم المرأة المصرية، وإنما أعجبنا، في سهرية الأسبوع الماضي، احتفاظُ صوتها بأناقته، بوداعته، بأنفاس بليغ فيه، فكان استعادةً حارّة من زمنٍ للغناء العربي كان جميلا.