في طبائع السلطوية الجديدة والاستعصاء الديمقراطي
يقدّم أستاذ العلوم السياسية، عمرو حمزاوي، في كتابه "طبائع السلطوية الجديدة: السياسة في بر مصر بين 2013 و2019"، قراءة توثيقية وتحليلية لكيفية استعادة النظام المصري بنيته الصلبة، بعد التراجع الكبير الذي أصابه إثر ثورة يناير 2011. يبدأ في المقدمة بنقاش دور العلوم السياسية التي يرى أنها لا تحمل في جعبتها إجابات قاطعة على أسئلةٍ حتمية استمرار أنظمة سلطوية بعينها أو انهيارها، فنماذج دول شرق أوروبا تتناقض مع مصير يوغوسلافيا، على الرغم من اشتراكها في العوامل نفسها. وكذلك لا يكفي تفسير غياب التراث المؤسسي، كعدم نشأة ملكية دستورية بعد القيصرية الروسية، لأن دولا أخرى، مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية، وصلت إلى الديمقراطية من دون ماض رأسمالي أو ديمقراطي عريق.
على الرغم من هذه الإشكالات، يعلن حمزاوي انحيازه الواضح لـ "تشريح السلطوية كواجب أخلاقي وأكاديمي لدارسي العلوم السياسية". ويكتب "ليس دور العلوم السياسية أن تقدّم النصح إلى الحكام، بل أن تكشف حقائق الحكم ومناحي العدل والظلم في إدارة شؤون الناس وأنماط توزيع القوة التي تصنع الفوارق".
وتحت عنوان "الاشتباك مع الاستبداد دون إطالة أمده"، ينتقد حمزاوي بشدة ما يقدمه بعض دارسي العلوم السياسية من أطروحات لإصلاح النظم الديكتاتورية من داخلها، من دون التزام مبدئي بالدفاع عن حرّيات المواطن وحقوقه التي تتضمن محاسبة الحكام وتداول السلطة. من دون ذلك، تصير أحاديث الإصلاح بمثابة واجهة فكرية تؤدّي إلى "طبعنة الاستبداد". من هنا يحدّد حمزاوي بوضوح معسكره: "أكتب من موقع الخصومة مع الحكم الراهن في مصر.."، لكنه يؤكد أنه، كما يُشرّح أدوات النظام المصري القمعية، يبحث أيضا في التقليل من غلوائه السلطوي ومساحات الإصلاح الممكنة وآلياتها.
بعد شرحه أن النظام المصري سلطوي وليس شموليا بتعريف حنا أرندت، يقدم حمزاوي، في الفصل الأول، شرحاً مفصلاً لما يسمّيه "صندوق عدة" النظم السلطوية الذي تم استخدامه منذ إسبانيا الثلاثينيات، وبرازيل الستينيات، إلى الصين، وروسيا بوتين، وأغلب الدول العربية اليوم، وحتى دول تحتفظ بالإجراءات الديمقراطية، لكنها تنجرف بسرعة في اتجاهاتٍ سلطويةٍ مثل المجر وتركيا.
يكرّر حمزاوي انتقادات حادّة للقوى الليبرالية واليسارية المصرية التي أيّدت غالبيتها إطاحة التجربة الديمقراطية الوليدة، وتواطأت على الصمت على الانتهاكات
يختار كل نظام من الصندوق نفسه ما يتآلف مع ظروفه وحاجته. وفي الحالة المصرية تشمل العدة: الخطاب الشعبوي برافديه، الوطني والديني، وتقديس حكم الفرد البطل المخلص، تغلغل المكون الأمني في الحكم المدني "الأمنوقراطية"، احتكار المعلومات وإخفاء الحقائق، وتسفيه السياسة عبر تشويه المعارضين وإبراز عجز المدنيين، وصولاً إلى ظاهرة "التباهي بالاستبداد". فقد وصلت الأنظمة السلطوية إلى إدراك أن أحاديث حقوق الإنسان الصادرة من دوائر أممية وغربية هي واقعا محدودة الفاعلية ومزدوجة المعايير، وهكذا أصبح ممكنا المجاهرة بالعداء للفكرة الديمقراطية، كما في تصريحات الرئيس المصري عن أولوية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أو مطالبته العالم بإعادة النظر في مفاهيم الحريات وإدراك أن ما يصلح للغرب لا يصلح لنا.
أخطر ما تؤدي له هذه "العدّة" تشويه الوعي الشعبي الجمعي، حيث تتم صناعة "المواطن العاشق للقمع". ويتورط في ذلك من يسميهم حمزاوي "فاوستيي الاستبداد" (نسبة لفاوست الذي باع روحه للشيطان، في مسرحية الألماني غوته)، ويعرّفهم بأنهم "بين ضالعٍ في التمكين للسلطوية يتباهى بحكم الفرد، وبين غارق في دعم سلطوية بديلة ذات رداء ديني زائف، يزعم متهافتاً احتكارها للحقيقة المطلقة وحمله هو لصكوك النقاء الثوري، وبين متورّط في معايير مزدوجة تجعله يتبنى الشيء ونقيضه، وتعجزه دوماً عن مغادرة السرب، أي سرب".
وعلى الرغم من اختلاف أيديولوجياتهم، إلا أنهم يتشابهون بشدّة، فكلهم "يغيّبون العقل، يمتهنون المعلومة، يذبحون فضيلتي التفكير النقدي والتسامح على محراب الرأي الواحد". وفي هذا السياق، يكرّر حمزاوي، في عدة مواضع من الكتاب، انتقادات حادّة للقوى الليبرالية واليسارية المصرية، التي أيّدت غالبيتها إطاحة التجربة الديمقراطية الوليدة، وتواطأت على الصمت على الانتهاكات. ينفي عنهم صفة "الديمقراطي الحقيقي"، ويلومهم على "تشويه العلمانية"، ويرى أن خطيئتهم الكبرى لا تقلّ عن خطايا فترة حكم جماعة الإخوان المسلمين "حين عصفوا بمنطق الدولة بتكريس ثنائية الرئيس المنتخب والجماعة المغلقة المستأثرة بالأمر، وانقلبوا على قاعدة التوافق الوطني وتناسوا أولوياتها لإدارة التحول الديمقراطي، وورّطوا مصر في صراعات هويةٍ شكّلت حاضنة للاستقطاب المجتمعي".
يبحر الكتاب عميقا في السياقات التاريخية والإقليمية لتشكّل "جمهورية الخوف" في مصر
يقدم الفصل الثاني من الكتاب توثيقا مطولاً لآليات "التطويع السلطوي للدستور والقانون"، حيث تشترك الدول السلطوية في التفنن في تحويل ممارساتها لأطر قانونية. ويستعرض هنا تفصيليا ترسانة القوانين المصرية التي صُمّمت لتفكيك كل مكتسبات التجربة الديمقراطية القصيرة، مثل قوانين التظاهر، الكيانات الإرهابية، الجرائم الإلكترونية، تنظيم العمل النقابي، القيادات الجامعية، تنظيم الصحافة والإعلام، وتم تتويج ذلك بحالة الطوارئ الممتدة، ثم بالتعديلات الدستورية التي مدّدت فترة حكم الرئيس، وأحكمت سيطرة رأس السلطة التنفيذية على القضاء والأجهزة الرقابية.
ثم ينتقل في الفصل الثالث إلى توثيق "الحراك المجتمعي الجديد"، وعبر سرد معلوماتي مكثف حافل بالأرقام والتواريخ، يوثّق، عبر السنوات، تطوّر محاولات المقاومة من الأحزاب، والنقابات، والعمال، والمنظمات الحقوقية، و"مبادرات القضية الواحدة"، وحراك طلاب الجامعات، فضلا عن حراك الشارع العفوي. وقد تحققت نجاحات جزئية، كانتزاع نقابة الأطباء، أو الحراكات العمالية، أو احتجاجات عفوية، بعض المكاسب، وهي كلها خطوات "لا تهز العرش" لكنها تساهم في استعادة المجال العام. وفي الفصل نفسه، تم تخصيص عنوان لتحليل جولة الاحتجاجات ضد اتفاق تسليم جزيرتي تيران وصنافير، حيث يعود حمزاوي إلى طرح رأيه المثير للجدل في الأوساط المعارضة المصرية، طرح مقولات شعبوية، مثل التظاهر تحت شعار "جمعة الأرض عرض"، بدلا من الاقتصار على الخطاب الديمقراطي. يعترف حمزاوي بأن هذا الحراك حقق نجاحا لافتا في البداية، ووجدت السلطة نفسها للمرة الأولى منذ 2013 تحت ضغوط شعبية حقيقية، واهتزّت صورتها محتكرة الوطنية، إلا أن الطبيعة الشعبوية لحراك "تيران وصنافير" صنعت أيضاً أزمته. لم ينته بسبب القمع فقط، بل أيضا لأن لدى السلطوية دوماً من المقولات الشعبوية المضادّة، ومن الفرص المتكرّرة لطرحها على الرأي العام، ما يمكّنها تدريجياً من صرف الناس عن معارضيها على أرضيتها. يحذّر حمزاوي من أن منازعة السلطوية شعبوياً تنحرف بمقاومتها بعيداً عن الحقوق والحريات، بل أيضا عن ملفات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القادرة وحدها على توفير حاضنةٍ شعبيةٍ مستدامة للحراك الاحتجاجي.
يبحر الفصل الرابع من الكتاب عميقا في السياقات التاريخية والإقليمية لتشكّل "جمهورية الخوف" في مصر، وهي التي لم تعرف منذ الخمسينيات سوى "التعامل التأجيلي مع بناء الديمقراطية"، حيث دائماً يفرض الحاكم الفرد على مواطنيه المقايضة الزائفة، الخبز والأمن نظير الحرية. وتارة ثانية بترويج مقولات عدم جاهزية البلاد للديمقراطية. وتارة ثالثة بمقولات التخويف: إما أنا أو الفوضى.
ثبت للشعوب أن الأنظمة "فاشلة تنموياً" في أغلبها، أي أنها لم تحقق جانبها من المقايضة المزعومة
لم تعرف مصر منذ الخمسينيات إلا اقتناع الحاكم الفرد بقدرته على "الإنجاز"، من دون مؤسسات منتخبة، والنتيجة طغيان ظواهر مثل سطوة الفردية على أداء المؤسسات، والمحدودية البالغة لأدوات الرقابة على شاغلي المنصب العام. ولكن هذا ليس تفسيراً كافياً للسؤال التقليدي عن سبب "الاستعصاء الديمقراطي" في العالم العربي، بعدما ثبت للشعوب أن الأنظمة "فاشلة تنموياً" في أغلبها، أي أنها لم تحقق جانبها من المقايضة المزعومة. ويعتبر حمزاوي أن العوامل الرئيسية داخلية، لا خارجية، ويفسّرها بسماتٍ عربيةٍ مميزة، أولها أن النخب الأمنية لا يقتصر دورها على القمع والتشويه للمعارضين، بل يمتد إلى الإدارة المباشرة للأجهزة البيروقراطية والمحلية، وهو ما أدّى إلى بلورة شبكة شاملة ونافذة للإدارة الأمنية للمجتمع، تعيق جذرياً أي حراك معارض منظم.
جانب ثان بالغ الأهمية، هو نزوع الحكم في الحالة العربية نحو شخصنة السلطة لدى الحاكم الفرد، وتركّزها في مجموعات صغيرة العدد حوله ذات مصالح متجانسة، وهذا ما يختلف عن خبرات عالمية معاصرة لانهيار الحكم السلطوي في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، بعد أن تتحوّل الاختلافات والصراعات داخل النخب الحاكمة إلى قاطرة التغيير.
عنصر ثالث بالغ الأهمية أن الخطابات الرسمية لا تعدم القدرة الإقناعية التي تخيف أغلبية المواطنين من طلب التغيير. وهنا يحمّل حمزاوي النخب السياسية جانباً رئيسياً من المسؤولية. ينتقد بشدة أداء النخب المصرية من كل التيارات بعد ثورة يناير، حيث انغمست في الخلافات البينية البعيدة عن مطالب الناس المعيشية، ما دفعهم إلى وعد بديل خادع، وهو ما حدث عبر التاريخ، كما بصعود الفاشية والنازية والبوتينية بدعم شعبي حقيقي في البداية. وأخيراً، يطرح رابطا بين استمرارية السلطوية وهيمنة ثقافة العنف الإقصائية على المجتمعات العربية، حتى بعيدا عن الجانب السياسي، حيث إنه لا إدارة سلمية للاختلاف في مجتمعاتنا، بينما تغيب أفكار قيمة الفرد أو المواطن أو الإنسان.
المجتمعات دائمة التغيير، وفرص خروج البلاد التي أنهكها الاستبداد أو تمكّن منها العنف من أزماتها أبدا لا تنعدم
وعلى الرغم من هذا "الاستعصاء" ذي الأسباب الموضوعية، إلا أن الخوف لا يقتصر على المعارضين، بل يمتد إلى القائمين على "جمهورية الخوف" أنفسهم، فهم يعرفون أيضا وجود حدود قصوى لفاعلية القمع، لأن واقع غياب العدالة قد يجعل الشعوب تفاجئهم كما تحرّكت بعد عقود عام 2011، وفي حراكي 2018 في الجزائر والسودان. ولكن هذه الحقيقة ذاتها تدفع الأنظمة إلى مزيدٍ من القمع العشوائي. وهنا يتحدث حمزاوي، بمرارة واضحة، أن الصورة المثالية المتخيلة للمدافعين عن الديمقراطية، بوصفهم أبطالا "دون كيشوتيين" غير صحيحة، بل يصعب التغلب على شعورهم بالإحباط المستمر، سواء لأسباب عامة، كاستمرار توغل السلطوية، أو لأسباب خاصة، مثل لفظهم من الرأي العام نفسه، بسبب دعايات التخوين ونزع الوطنية، ووصولا إلى تعقب الأجهزة الأمنية لهم جسديا، ما يقضي على شعورهم الذاتي بالحرّية، ويغرس الخوف في المحيطين بهم من الأسرة والأصدقاء، وهو ما قد يؤدّي إلى تراجعهم عن مواقفهم بحثا عن شيء من الأمان، أو أن يتم زجهم في "الدائرة اللعينة من الرقابة الذاتية". وهنا يقدم حمزاوي قائمة من الاقتراحات التي لا تزعم تقديم الحل الوافي، مثل ضرورة الاعتراف الجماعي بحقيقة هزيمة الثورة، وبالوطأة النفسية والإنسانية لما يتعرّض له المدافعون عن الحريات، وضرورة العمل الجماعي، والمساندة المهنية، والابتعاد حد الاستطاعة عن الصراعات البينية، ومع ذلك الاستمرار في محاولة تكوين تجمعات سلمية وعلنية، تدفع إلى عمل تراكمي على المديين، المتوسط والطويل.
يختتم حمزاوي كتابه بحوار دار بينه وبين روائية كينية، ومعالج نفسي ترجع أصوله إلى ألمانيا الشرقية، جمعهم نقاش عن إحباطهم من مستقبل الإنسانية، في ظل ما نشهده من موجة سلطوية عالمية، حيث تصعد الشعبويات والعنصرية في أميركا وأوروبا، بينما تطرح سلطويات صاعدة، مثل روسيا والصين، نفسها نماذج بديلة عن الديمقراطية. ولكن تجارب التاريخ التي استعرضوها أيضا تؤكّد أن المجتمعات دائمة التغيير، وفرص خروج البلاد التي أنهكها الاستبداد أو تمكّن منها العنف من أزماتها أبدا لا تنعدم.