في ضيافة غسّان كنفاني
صفحات رواية "رجال في الشمس" نحو مائة (أو أزيد قليلا) من القطع الصغير، كتبها غسّان كنفاني (1936) في عمر الثالثة والعشرين، وهي أولى رواياته، صدرت في 1963. تتّصف بالبساطة في مبناها ومحكيّتها، وإنْ تبقى على قوةٍ في تكثيف مرسَلاتها وتظهير شخصياتها الأربع وجوانيّاتهم. ثلاثة فلسطينيين أرادوا مورد رزق وعملٍ في الكويت، فتوسّلوا الدخول تهريبا، فوضعهم سائق سيارة خزّان ماء متهالك في الخزّان، ثم ماتوا فيه. .. منذ 60 عاما، وهم مُدانون، ومشرشَحون، ليس فقط لأنهم لم يدقّوا جدران الخزّان، (لو فعلوا هذا، هل كان السائق "العنّين" أبو الخيزران سينقذهم؟)، بل لأنهم تَركوا فلسطين بحثا عن الرزق. وجرى التأويل أن ذلك المهرّب، الانتهازي، يرمز إلى القيادات الفلسطينية إبّان النكبة وبُعيدها (!). ومنذ ستة عقود، والمطالعات في هذه الرواية، والدراسات والكتابات عنها، لا تتوقّف، كما كل ما أصدر غسّان تاليا من رواياتٍ، ثم رواياتٍ لم تكتمل، ومن مجاميع قصصية (ومسرحيات). الأمر الذي من أسبابه أن غسّان كنفاني، وهو من قبلُ ومن بعدُ علامةٌ كبرى في المدوّنة الفلسطينية، قضى شهيدا في جريمة اغتيالٍ إسرائيليةٍ خسيسة، في بيروت، في 1972، وكان في السادسة والثلاثين، وهو الذي لم يُحارب بالسلاح. كان قياديا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ورسّاما وصحفيا وروائيا وقاصّا ومسرحيا وكاتب أدب أطفال وكاتب مقالة. وفي هذا كله، أطلّ حاذقا، وصاحبَ موهبةٍ وطاقةٍ خلاقتين حقّا.
يُؤتى هنا على هذه النتف من سيرة غسّان، وعلى ذيوع "رجال في الشمس" بتلك الكيفيّة، بمناسبة مؤتمرٍ نظّمته في عمّان وزارة الثقافة الفلسطينية بالتعاون مع نظيرتها الأردنية، اسمُه "مؤتمر غسّان كنفاني للرواية العربية"، وعنوانه "فلسطين في الرواية العربية .. تحوّلات في الرؤية والتشكيل". شارك في جلساته العشر في أيامه الثلاثة نقّادٌ وكتّاب رواية وقصة وأكاديميون ودارسون، من فلسطين والأردن والعراق والكويت والبحرين والسودان وسورية والسعودية وعُمان والمغرب ومصر وتونس (ومترجمة من إيطاليا). ومن بين كثيرٍ قيل في هذا المنتدى الجامع إن أدب غسّان يظلّ في حاجةٍ متجدّدةٍ لقراءته والإضاءة عليه، كما هي الحاجة الدائمة إلى استعادة غسّان نفسه، قيمةً وأديبا. ومع تسليمٍ، هنا، بصواب هذه الوجهة، حظيت إنتاجات صاحب "برقوق نيسان"، سيما الروائية والقصصية، بأطروحاتٍ وأبحاثٍ جامعية، وكتاباتٍ نقدية، عديدة جدا، ما يجيز الرأي إن الحاجة هي إلى مداخل ومقارباتٍ متجدّدة، في قراءة أدب غسّان، كما هي الحاجة إلى توليد إجاباتٍ عن أسئلةٍ أوسع أفقا، من قبيل: كيف للحالة الفلسطينية، في طوْرها الراهن، أن تفيد من الوعي الذي أقام عليه غسّان مناضلا وصاحب منجزٍ ثقافيٍّ وسياسيٍّ معلوم؟ ما هي أوجه الحاجة فلسطينيا، وعربيا (لم لا؟) إلى غسّان في غضون السوء الراهن المعيش؟ كيف ندرّس أدب غسّان في مناهج التعليم ومقرّراته؟
في الوُسع أن تُضاف أسئلةٌ أخرى، وهناك من هم أقدرُ من صاحب هذه الكلمات على اقتراح إجاباتٍ عنها، غير أن بعض أصحاب الكلام في المؤتمر، في فندق لاند مارك في عمّان، عن ضرورة استعادة قراءة غسّان، لم يجتهدوا في تنوير مستمعيهم عن أدواتٍ ووسائل ومقارباتٍ أخرى ومختلفة ومبدعة (بدل جديدة) في هذه القراءة المطلوبة المتجدّدة، التي تضيف أفقا ونقاشا آخريْن، يتجاوزان التغنّي بسؤال أبو الخيزران مؤنِّبا ضحاياه الموتى، لأنهم لم يدقّوا جدران الخزّان. .. ماذا لو اعتبر واحدُنا أن الترميزات أتعبت "رجال في الشمس" 60 عاما، وأن لأيٍّ منا أن يقول إنه لم يكن صحيحا أن يُقرَّع أولئك الرجال لأنهم تركوا النضال في وطنهم، وراحوا إلى لهيب شمس الصحراء من أجل أن يترزّقوا، فوقعوا ضحية أبو الخيزران الذي يؤشّر إلى فساد قياداتٍ فلسطينية. لماذا لا تكون الرواية عن تطلّع الإنسان، (الفلسطيني وغيره) إلى مغادرة وضعٍ معيشيٍّ لا يُرضيه، ووحده "عبث الأقدار" ساقهم إلى خزّان أبو الخيزران .. وانتهينا؟
بدت أوراقٌ وقراءاتٌ في مؤتمر عمّان على مستوىً من الجدّة والجدّية والاجتهاد. اعتنى غير قليل منها بنتاجات روائيين فلسطينيين طرحوا حضورا إبداعيا لافتا في العقدين الأخيرين. استُضيف أدباء عرب، بينهم فلسطينيون، مخضرمون وشبّانٌ وجُدد، ليقدّموا شهاداتهم عن تجاربهم، وعن غسّان في ذاكرتهم، وعن فلسطين في وجدانهم. ... في الأول والأخير، اجتماعُ نخبةٍ عربيةٍ في ضيافة غسّان كنفاني أمرٌ طيب. شكرا إبراهيم السعافين ورزان إبراهيم وإبراهيم نصرالله وزهير أبو شايب وصبحي حديدي ونبيل حدّاد وهاشم غرايبة والمغيرة الهويدي وأنيسة السعدون وسعود السنعوسي وأمير تاج السر وحسن حميد وجمال مقابلة وجوخة الحارثي ومحمد عبد القادر ونادية هنداوي وسحر خليفة وحسين حمودة ونداء مشعل وليندا عبيد ومرشد أحمد وفخري صالح وسعيد يقطين وسامية العطعوط ورشاد أبو شاور ومحمد شاهين ومحمد عصفور ومها القصراوي وزهير عبيدات وأماني سليمان وحكمت النوايسة وهزاع البراري .. وإيزابيلا كاميرا.