في ضرورة تصويتنا لهاريس

18 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لا يحمل صاحب السطور أدناه الجنسية الأميركية، ولم يحدُث أن زار الولايات المتحدة (للأسف)، ولكنه يحشُر نفسَه بين العرب والمسلمين الأميركيين ذوي أهليّة التصويت في انتخابات الرئاسة الأميركية، ويُزايد عليهم، في العنوان أعلاه، بوجوب أن "نصوّت" لمرشّحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس. وهذا عجيبٌ من شخصٍ لا خبرة له، في الأصل والفصل، في قصة الانتخابات الأميركية كلها، ولا دراية له بولاياتٍ متأرجحةٍ وأخرى غير متأرجحة. ولكن الأعجب من حالةٍ كهذه منطقٌ يشيع بين أوساط العرب الأميركان هناك، ومعهم قطاعاتٌ عريضةٌ من مهاجرين من دول إسلامية، عن وجوب معاقبة السيدة هاريس، بسبب مواقف إدارة الرئيس بايدن، ومعلومٌ أنها نائبتُه، شديدة الانحياز لدولة الاحتلال الإسرائيلي في حرب الإبادة الجارية في غزّة. وذلك بالتصويت لمرشّحة حزب الخضر (اليساري) جيل ستاين (اليهودية لمن أراد أن يعرف). وعندما تُخبرنا استطلاعاتُ رأي أن 40% من العرب والمسلمين سيفعلون هذا، فلنا أن نعرف، بداهةً، ومن دون حاجةٍ إلى خبرة بأميركا أو زيارتها، أن هذه الأصوات تصبّ في طاحونة دونالد ترامب، فلا حاجة لكلامٍ كثيرٍ وإسهابٍ في تحليلاتٍ نافلةٍ للقول إن الانتخابات المتحدَّث عنها هي بين هذا الرجل ونائبة الرئيس بايدن، وإن المنافسة بينهما فقط، فليس في وُسع أيٍّ من مرشّحين خمسةٍ آخرين (هل أحدٌ يحفظ أسماءهم؟). ولا أحد في الدنيا على ثقةٍ بأن العرب والمسلمين هناك حسبوها بالمسطرة والقلم، ودقّقوا جيّداً، فأكّدوا لأنفسهم (دعك من غيرهم) أن ثمّة حدّاً أدنى لفرصة فوز الطبيبة والناشطة (في شؤون البيئة) السبعينية، جيل ستاين، أو أقلّه إقلاق ترامب.

ليس في مقدور أي عاقلٍ أن يدافع عن هاريس، وأن يعدّها نصيرة لحقوق الشعب الفلسطيني وقضايا الأمة العربية (لو كانت كذلك لما وصلت إلى منصبها الراهن). ولكنّ اعتباراً كهذا لا يجوز، في منطق السياسة والاشتغال بها، أن يغيّب النظر في أولويةٍ أخرى، أي المقارنات بين هذه المرأة وخصمها العنصري وسيئ الصيت، والذي تُكافئه "معاقبة" منافسته، بعدم التصويت لها، بالإقامة في البيت الأبيض نصيراً شديد التطرّف لإسرائيل الأوسع من مساحتها الراهنة، والأكثر إجراماً من إجرام الإبادة الجماعية الراهن في غزّة، والظهير الأنشط لكل استيطانٍ في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي لن يُخفي حماسه لضمّ الضفة الغربية، ولا يعنيه الأردن بشيء، وطناً بديلاً لفلسطينيين مهجّرين أو وطناً لأبنائه. ويحسُن أن يُعرَف أن ترامب رئيساً منتخباً في العام 2024 غيرُه رئيساً منتخباً في 2016، أي أن يُعرف أن السقوف الواطئة (وهذا وصفٌ مخفّف) لوثيقته التي أعلنها في يناير/ كانون الثاني 2020، "السلام من أجل الازدهار.. رؤية جديدة لتحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي"، وشاع اسمُها "صفقة القرن"، ستصير أعلى بكثيرٍ مما سيطرحه من مقترحات سلام وازدهار وتطبيع، فلن يكتفي بالجهر بإلغاء أي اعترافٍ بوجود الشعب الفلسطيني، وإنما قد يوازي هذا بإسناد حقّ إسرائيل في السيطرة على ما كل ما تيسّر لجنودها من أراض عربية، لبنانية وسورية وفلسطينية (غزّة وغيرها)، يصلون إليها.

للصوت في المواسم الانتخابية في الدول الديمقراطية قيمته ووزنه وأثره. ويعرف هذا البديهيَّ عرب الولايات المتحدة والعالمثالثيون القادمون إليها يحوزون جنسيتها. ولهذا، لا يصير الحكي عن أفضلية هاريس على ترامب كلاماً مُرسلاً في المقاهي لتزجية أوقات ناسٍ لا يستشعرون لمواطنتهم في بلدانهم معنىً، وإنما هو هناك، في الولايات المتحدة، كلام مسؤول. ولهذا ثمّة مسؤوليةٌ خاصة، وعظيمة الأهمية، للصوت العربي والمسلم في الانتخابات الرئاسية (وغيرها) الأميركية عموماً. وتتضاعف هذه الأهمية في الخامس من الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني)، لأن وضوح المقارنة بين السيئ والأسوأ، في الموقعة المرتقبة هذه، لا يعطي مساحةً للتّ والعجن، ولا لكلامٍ عن عقوبة هذه المرأة وتفضيل امرأة أخرى عليها، وهو وضوحٌ لا يجوز (هل مسموح استخدام هذه المفردة؟) أن يكون موضوع سجالٍ نافل.

زيادة لمستزيد، العالم بلا دونالد ترامب أقلّ بؤساً منه بوجود هذا الرجل الذي جرى التعاطي معه في أربع سنوات غير منسيّة. وهنا، لن يعني شيئاً ذا أهمية أيُّ قولٍ عن رداءة إدارة بايدن وانحطاطها في غضون الحرب العدوانية على غزّة (والأخرى الراهنة على لبنان)، ليس فقط لأن كوارث ترامب (ورجالاته) في ملفاتٍ بلا عدد (المهاجرون مثلا) مشهودة، بل أولاً وعاشراً، لأن في عدم العمل على إنجاح هاريس تقويضاً للسياسة وجوهرها ومعناها...

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.