في صحوة الشارع العربي

22 نوفمبر 2023

آلاف المغاربة في مسيرة احتجاج ودعم لفلسطين وغزّة في الرباط (15/10/2023/الأناضول)

+ الخط -

يُعتبر الشارع مجالا دالّا، وفضاء تعبيريا مكثفا، وحيّزا حركيّا معبّرا، وفضاء تعبويا حيويا، ومكانا رامزا، ناطقا بأصوات الجماهير التي تحتشد فيه للبوح، والاحتجاج، والمطالبة بالتغيير. إنه قوّة ضغط وأداة تثوير وتنوير. وهو مجال عمومي، تروم من خلاله السلطة الحاكمة، كما الجماعات المدنية، التعبير عن كينونتها واستقطاب الرأي العام لمصلحتها. وتسعى الجماهير من خلال حركة الشارع إلى التأثير في أصحاب القرار في الداخل والخارج، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي على كيْفٍ ما.

والمشهود في السياق العربي أنّ الشعوب العربية التي أدماها أتون الاستبداد طويلا، راكمت الوعي والكبت عقودا. ثمّ حوّلت ذلك كله إلى حراك احتجاجي/ جماهيري عارم سنة 2011 وما بعدها، وهو ما أدّى إلى سقوط عدّة أنظمة شمولية في المنطقة. لكنّ ربيع العرب لم يدُم طويلا، فقد تألّبت عليه لوبيات الثورة المضادّة، ومافيات الفساد، والجماعات المسلّحة، وقنوات الإعلام المضلّل، والانقلابات العسكرية، والآلة السلطوية القامعة، فآل الاحتجاج إلى الضمور، بل غدا التظاهر ممنوعا في عدّة دول عربية.

غير أنّ اندلاع عملية طوفان الأقصى (07/10/2023)، وانخراط السلطات الإسرائيلية في شنّ عدوان غاشم على المدنيين في غزّة مثّلا قادحا لانتفاض الشارع العربي من جديد وعودة الجماهير إلى الميادين، معبّرة بأصوات عالية عن مناصرتها القضية الفلسطينية، وإدانتها الغطرسة الإسرائيلية، وغضبها من صمت المجتمع الدولي، ومن تخاذل جلّ حكّام العرب في نجدة سكان القطاع، وبذل الجهد لأجل وضع حدّ للحرب المسلّطة عليهم. وللحراك الاحتجاجي العربي في نصرة غزّة تجلّيات، ودلالات، وخلفيات عدّة.

الجموع العربية نفضت عن نفسها غبار الجمود والاستكانة، ونزلت إلى الشوارع، رافعةً صرخات الاحتجاج والإدانة ضدّ الانتهاكات الإسرائيلية

اتخذ التضامن الشعبي مع غزّة في البداية شكلا سيبرانيا/افتراضيا، فقد اجتاحت الإنترنت عموما، وشبكات التواصل الاجتماعي خصوصا، إبّان نجاح كتائب عز الدين القسّام والفصائل الفلسطينية في اقتحام الدفاعات الإسرائيلية وإلحاق خسائر فادحة بها، وسوم: "فلسطين حرّة"، "غزّة رمز العزّة"، "طوفان الأقصى"، "نهاية الجيش الذي لا يُقهر". وتحلّى الفضاء الافتراضي بالكوفية، والأهازيج، والأعلام الفلسطينية. وانتشرت بشكل مكثّف مشاهد تحطيم فلسطينيين الجدار العازل بين غزّة والمستوطنات الإسرائيلية، وهجومهم على مواقع عسكرية إسرائيلية استراتيجية، وأخبر ذلك بحالة من التعاطف الجمعي مع المقاومة الفلسطينية. وامتدّ التضامن العلامي مع فلسطين ليشمل رسْم خريطتها وأسماء مدنها على الجدران، ورفع أعلامها على المنازل والمتاجر، والمباني العامّة والخاصّة. وارتدى كثيرون أزياء تقليدية فلسطينية، فيما رسم أو وشَم آخرون اسم فلسطين أو خريطتها التاريخية على سَواعدِهم أو قمصانهم أو أياديهم. وفي ذلك احتفال بفلسطين ومتعلّقاتها، وتعبير عن رغبة أكيدة في استحضارها والتماهي معها وجدانيا ووجوديا.

ومع إقدام إسرائيل على شنّ حرب ضروس على سكّان غزّة وإدمانها قصف المدنيين بشكل عشوائي، واستهدافها الأطفال، والنساء، والشيوخ العزّل بوابلٍ من القنابل، والبراميل المتفجّرة، والصواريخ الزلزالية، تزايد الغضب الشعبي على دولة الاحتلال، ودفع صمود الغزيين وتمسّكهم بالأرض، رغم القصف والحصار، الجموع العربية إلى أن تنفض عن نفسها غبار الجمود والاستكانة، وتنزل إلى الشوارع، رافعةً صرخات الاحتجاج والإدانة ضدّ الانتهاكات الإسرائيلية الفادحة لحقوق الفلسطينيين وللقانون الدولي، معبّرة عن سخطها من مجتمع دولي مستقيل إزاء ما يحدث في غزّة، وغضبها من ردّ فعل عربي واهن على عدوانٍ إسرائيلي سافر، يقتْل الأبرياء بدم بارد ليْل نهار.

العربي، إذ يتظاهر، يعبّر عن حالة صدام تاريخي مع إسرائيل التي يرى أنّها لا تروم القضاء على حماس فحسب، بل على الوجود الفلسطيني أصلاً

ويتبيّن الدارس للشارع العربي المتضامن مع غزّة أنّه يتميّز بثلاثة ملامح بارزة. أوّلها امتداده في الزمان والمكان والناس، وثانيها ثراء شعاراته من منظور سيميولوجي، وثالثها سلمية الحراك وانضباطه تنظيميا. فبعد سنوات من الصمت المطبق بتعلّة التخويف من الأنظمة السلطوية، ومن مآلات الربيع العربي الدامية في سورية، ومصر، وليبيا، واليمن، نزل العرب من الدار البيضاء، مرورا بالقيروان والقاهرة، وصولا إلى تونس وعمّان والكويت والدوحة وصلالة، وغيرها من المدن العربية إلى الشوارع، وتراصّوا في الساحات العامّة تعبيرا عن تضامنهم مع غزّة، واستعدادهم لبذل الغالي والنفيس لأجلها. وامتدّ الاحتجاج الشعبي ضدّ العدوان الإسرائيلي من المدن إلى القُرى، ومن الشوارع الرئيسية إلى الأحياء الطرفية. وشارك فيه متظاهرون ينتمون إلى فئاتٍ عُمرية وجندرية واجتماعية شتّى. فترى الشيب والشباب، والأطفال، والكهول، والشيوخ، والنساء والرجال، والمفقّرين وميسوري الحال قد انتفضوا جميعا دفاعا عن فلسطين.

كما تلمح في المشهد الاحتجاجي/ المتظاهر كلّ العائلات السياسية والدينية تقريبا، فترى الليبرالي واليساري، والإسلامي والقومي، والمسيحي والمسلم، والمتديّن وغير المتديّن، والمتأدلج وغير المتأدلج، يقفون جنبا إلى جنب، ويرفعون الأعلام والأيادي منادين بحتمية وقف إطلاق النار، وإنقاذ المدنيين في غزّة من آلة البطش الإسرائيلية القاتلة. ومن ثمّ، فملحمة غزّة لم توحّد الفصائل الفلسطينية فحسْب، بل وحّدت أيضا المجتمع السياسي، والديني، والمدني العربي، تحت راية الانتصار لفلسطين، فمن يُؤذيها كأنّما آذى العرب جميعا، ومن ينتهك حقوق أهلها فكأنّما انتهك حقوق كلّ العرب. ودلّ ذلك على أنّ فلسطين راسخة في القلوب، متجذّرة في الوعي الجمعي العربي، وهي أعدل القضايا قسمة بيْن الناس، فلسان كلّ عربي يلهج بعبارة: "فلسطين قضيّتي"، فرغم مشاريع التطبيع المأزومة، وسياسات التضليل الإعلامي المخادعة، والتعتيم على انتهاكات المحتل، ورغم منع تدريس القضية الفلسطينية في مؤسّسات تعليميةٍ عربية عدّة، ما زال العربي مسكونا بفلسطين ومتعلّقاتها. وسبق أن أكّد "المؤشّر العربي" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات هذا الشعور العربي العام، فقد أخبر، في استطلاعاته الدورية الموثوقة، أنّ الغالبية العظمى من العرب تعتبر فلسطين قضيّتها الأولى، على خلاف ما ادّعته بعض مراكز البحث الاستشراقية المشبوهة أنّ التأييد لفلسطين تراجع في الشارع العربي في ظلّ امتداد مشروع التطبيع، وقد بات واضحا أنّ الجماهير العربية المحتشدة لنصرة فلسطين أثبتت زيْف هذا الادّعاء.

 لسان كلّ عربي يلهج بعبارة "فلسطين قضيّتي"، رغم مشاريع التطبيع المأزومة وسياسات التضليل الإعلامي المخادعة

والثابت أنّ صمود الغزّيين في وجه القصف العشوائي لدولة الاحتلال أعاد القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام الدولي، وحرّر الأفكار، والأقلام، والحناجر، ورفع الخوف من القلوب، فأبدع المتظاهر العربي المنتصر لغزّة شعاراتٍ معبّرة، يمكن إدراجها سيميولوجيا ضمن ثلاثة حقول. الأوّل، متعلّق بإقرار حقّ الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلّة: "العدالة لفلسطين"، "الشعب يريد دولة فلسطينية كاملة السيادة"، "القدس عاصمة فلسطين الأبدية". والثاني، متّصل بإدانة العدوان الإسرائيلي على المدنيين: "أوقفوا الإبادة الجماعية"، "كم طفلا يجب أن يُقتل حتّى يتم وقف إطلاق النار!"، "إسرائيل مارقة". والثالث دائر على الانتصار لخيار المقاومة: "فلسطين ليست للبيع"، "مقاومة... مقاومة... لا صلح ولا مساومة"، "الشعب يريد إسقاط التطبيع"، "بالروح، بالدم نفديك فلسطين". وذلك في ظلّ إنكار السلطات الإسرائيلية حقوق الفلسطينيين التاريخية، وتماديها في اعتماد الفصل العنصري، والتهجير القسري للفلسطينيين، والقتل على الهوية. ودلّ تنوّع الشعارات على وعي العقل الاحتجاجي العربي المتظاهر بتفاصيل القضية الفلسطينية وانغراسه فيها، وإدراكه محاور الصراع مع دولة الاحتلال. واللافت أنّ الفاعلين في مشهدية التظاهر لم ينخرطوا في دوّامة التعصّب الحزبي أو الجهوي أو الطائفي أو الطبقي، بل اجتمعوا تحت راية فلسطين، وتظاهروا لأجلها في كنف السلمية، ومن دون المسّ بالممتلكات العامّة والخاصّة.

في مستوى أركيولوجيا التظاهر لنصرة غزّة وخلفياته، يمكن القول إنّ العربي إذ يتظاهر يتخفّف من قيود الدولة الشمولية، ويعبّر عن وجوده وعن حقّه في التعبير، والتأثير في صنّاع القرار في تعاطيهم مع الشأن الفلسطيني. والعربي، إذ يتظاهر، لا يعتبر القضية الفلسطينية شأنا داخليا أو إقليميا، بل شأنا قوميا وإسلاميا، لما لها من قُدسية ومكانة عليّة في الذاكرة الجمعية. ومن ثمّ، فالخروج إلى الشارع هو من أشكال استحضار فلسطين والانتماء إليها على كيْف ما. والعربي، إذ يتظاهر، يعبّر عن حالة صدام تاريخي مع إسرائيل التي يرى أنّها لا تروم القضاء على "حماس" فحسب، بل على الوجود الفلسطيني أصلا. وأخبرت بذلك دعوة وزير إسرائيلي إلى "إطلاق قنبلة نووية على غزّة". كما أن العربي، إذ يتظاهر، يثور على الهيمنة الإسرائيلية التي تهدّد هويته وكيْنونته في زمن تصاعَد فيه حضور تيارات يمينية ودينية متطرّفة في إسرائيل، تقول إنّها لن تكتفي بالاستيلاء على فلسطين، بل تحلم بإقامة "دولة إسرائيل الكبرى".

ختاما، لن يقضي استمرار السلطات الإسرائيلية في استهداف المدنيين في غزّة، عبر قصفهم عشوائيا، وحصارهم، وتشريدهم، وتجويعهم، وهدم البيوت والمدارس، والمشافي، والملاجئ على رؤوسهم، على فكرة المقاومة، ولن يضمن الأمان لإسرائيل. بل سيزيد من عزلتها إقليميا ودوليا، وسيُحرج الأنظمة العربية المطبّعة معها، ويعمّق الفجوة بينها وبيْن شعوبها، وسيزيد من وتيرة تظاهر الشارع العربي والإسلامي والكوني المضادّ لإسرائيل والغرب. ويُنذر بتعاظم ظواهر الكراهية، والتطرّف في المنطقة على نحو يهدّد السلم الإقليمي والعالمي، في ظلّ تعنّت الجانب الإسرائيلي، وتنكّره للمواثيق الأممية في علاقة بالقضية الفلسطينية، واعتماده سياسة صمّ الآذان، والهروب العبثي إلى الأمام.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.