في سؤال الفرنكفونية المغاربية
يفاخر بعض غلاة الوطنية الجزائرية اليوم بأن بلدهم الذي احتله الاستعمار الفرنسي في أوائل القرن التاسع عشر (1830) لم ينتمِ مطلقا إلى المنظمة الدولية للفرنكفونية، ولا هو من المنتسبين أو المراقبين أيضا، رغم أن اللغة الفرنسية، بحكم التاريخ الطويل والإلحاق الإداري والسياسي والوجود الاجتماعي الفعلي للفرنسيين، هي التي استبدّت وسادت، ثم أوجدت بنيات مختلفة لم تُعرف لأي لغة من قبل، وضد الوجود العربي الإسلامي بأبعاده المختلفة. ولا مثيل لهذه الحالة في باقي الدول المغاربية إلا بالمخالفة، أي الحالة الليبية التي كانت، من قبل، تحت السيطرة الإيطالية، ولم يكن للفرنسيين فيها أي وجود مؤثر. وربما كانت تونس أسبق الدول المغاربية في الانضمام إلى المنظمّة الفرنكفونية غداة إنشائها في الثلاثين من مارس 1970، وتعتبر، بالمثل، من الدول الأعضاء المؤسّسة لها إلى جانب السنغال والنيجر وكمبوديا.
ولم يبدِ المغرب، رغم أنه ظل أزيد من 50 سنة تحت سلطة الحماية الفرنسية، إلا اهتماما محدودا بالمنظمة، فلم ينتمِ إليها رسميا إلا في سنة 1980. هذا مع التسليم بأن الحضور الفرنسي، وخصوصا على الصعيدين الاقتصادي واللّسْني، له مركز كبير في الحياة العامة، وأثره على صعيد المؤسسات المختلفة، كما هو دوره في التنمية والدعم بمختلف الأشكال التي يتشكلان بها، من الأهمية التي قد تثير، في علاقة بذلك، اندهاش المتتبع للأوضاع القائمة في البلاد.
ويبدو لي أن موريتانيا نفسها، وهي التي وقفت في وجه ما سمّاه بعض الموريتانيين التوسّع، أو الإلحاق، المغربي بفضل فرنسا والوجود الفرنسي نفسه، لم تكن أيضا على اهتمام كبير بالدور الذي يمكن أن تلعبه المنظمة الفرنكفونية. علما أن هذه المنظمة تهتم اهتماما واضحا بقضايا التنمية في البلدان التي كانت تابعة للمتروبول، كما أنها ترمي إلى الحفاظ، إن لم يكن توسيع، سلطة لغتها الفرنسية في الحياة العامة والإدارة وفي غيرهما، ضدا على الأطماع التي تخالج مطامح ولغات أخرى.
ومن الأفضل التعامل مع الحالة الليبية كحالة استثنائية بين الدول المغاربية، مع الاعتبار بعدم وجود أي سبب يمنع ليبيا من انتمائها للمنظمة الفرنكفونية كما هو حال دول كثيرة (غير الفرنكفونية)، ومصر، مثلا، في المجال العربي، فالتقسيم الذي أوجبته الأطماع الاستعمارية في المنطقة العربية وتوّج باحتلال دولها لم يكن لإيطاليا فيه، من موقع الشريك، إلا حصّة صغيرة... خصوصا وأنه لم يكن من المعروف مقدّما، أو هذا هو المفهوم، طبيعة الثروات الاقتصادية التي تزخر بها تلك الأرض. إلا أن انفراد فرنسا بحصة الأسد في مساحة جغرافية تتجاوز الخمسة ملايين كلم مربع، ممتدة على ساحلَيْ بحريْن هامين (المتوسط والأطلسي)، قاد المنظّرين الاستعماريين إلى إعمال استراتيجية خاصة في السيطرة الفعلية، مع إيلاء دور بارز للاستغلال الاقتصادي (الأسواق) وبناء أنظمة محلية، إدارية واقتصادية واجتماعية وتربوية، تلعب فيها اللغة الفرنسية الدور الحاسم والأقوى في التواصل والتفاهم ومختلف المساومات الممكنة على قاعدة الهيمنة.
المسكوت عنه في النهاية هو الرغبة التي تزكيها مصالح فئات اجتماعية متحكّمة في الاقتصاد وفي السياسة، في استمرار الهيمنة الفرنسية في مجالات حيوية كثيرة داخل كل بلد مغاربي
ويبدو أنه كان من الشائع في المراحل السابقة، وأساسا في السنوات الأولى لمرحلة السبعينيات من القرن الماضي، "محاكمة" الفرنكفونية، استراتيجية ومفهوما، على ضوء الأهداف السياسية، الحقيقية أو المتصوّرة، التي اعتمدها المؤسّسون الفعليون للمنظمة. وزاد في ذلك أن تلك المحاكمة تمت، في الغالب، في مناخ من الأجواء التي تمخّضت عن الاستقلالات الوطنية في الدول المغاربية، مع التأكيد على أن الاقتناعات الفكرية والإيديولوجية، التي تبنّتها فئات مختلفة ذات موقع سياسي أو ثقافي في بلدانها، كانت بارزة في الانتماء أو في رفض الانتماء. ومن الصعب أن نتصوّر، من هذه الزاوية، بصرف النظر عن الأهداف المعلنة أو المتضمّنة في ميثاق المنظمة الفرنكفونية، أن نظاما حديث العهد بالاستقلال، بعد حرب مقاومة شرسة ترك فيها شعبه، كما هو الشائع، أزيد من مليون شهيد، القبول بأي انتماء مهما كانت درجته الثقافية والإيديولوجية من المنظور الشعبوي الخاص بالبناء والازدهار. هذا بصورة خاصة وواضحة بعد انقلاب 1965 ذي التوجّه "الاشتراكي العروبي" المُعتمد اختيارا لا يُعلى عليه في مضمار الثورة الوطنية، بالإضافة إلى تحول العاصمة الجزائرية، إلى مقر ثوري للكثير من حركات التحرير الأفريقية ذات النفَس التقدمي. ومعناه أن نوعا من المعاداة الإيديولوجية الصورية للنظام الفرنسي لطبيعته الاستعمارية كانت مبرّرة بمعاداة أخرى للهيمنة الفعلية، المقرّرة أو الممكنة، للاستراتيجية الفرنكفونية والتي، بطبيعة الحال، كانت متعارضة مع تلك المتناقضة مع اختياراتها.
ومن المفيد أن يؤكّد المحلل على أن النظام الاقتصادي المغاربي المتنوع، وفي الأساس منه القوة الاقتصادية الفرنسية وأشكالها الاستغلالية، بالشراكة مع الرأسمال المحلي أو عمالته، لم تتغيّر إلا جزئيا، وربما شكليا، منذ كان للوجود الفرنسي تلك الأدوار التاريخية المعروفة، بحكم الاحتلال والاستفادة، في إيجاد القواعد الأولى للاقتصاد الرأسمالي التبعي وترسيخها في البلدان المغاربية، الأربع منها على الأقل. ومن هذه الزاوية، كانت تونس، ومعها المغرب وموريتانيا بدرجات مختلفة، أكثر انسجاما مع الأهداف التي رسمتها الأنظمة الحاكمة في علاقة بفرنسا وبالمنظمة الفرنكوفونية التي كانت صنيعتها الإيديولوجية في نشر الثقافة والفكر واللغة، فضلا عن التعاون في مجالي التنمية والبناء الاقتصادي.
تلعب اللغة الفرنسية الدور الحاسم والأقوى في التواصل والتفاهم ومختلف المساومات الممكنة على قاعدة الهيمنة
وما يجب أن يُفْهَم هنا أن الاستقلالات الوطنية في البلدان المغاربية تمت، كما هو معروف، بناء على مقاومة حركات تحريرية مختلفة حدّدت مطامحها منذ البداية في نيل الاستقلال، ولكنها تمت أيضا على أساس اتفاقيات، سرية وعلانية، راعت أن تضمن لفرنسا المستعمرة مصالح كثيرة، ما زال بعضها قائما بعد مرور أزيد من 60 سنة من الاستقلال. فالمسكوت عنه من الناحية السياسية، أو المسكوت عنه تحت أغطية إيديولوجية مقنعة لا تكشف عن حقيقتها، هو الذي لا يقال عندما تلجأ الدولة الوطنية إلى تبرير مواقفها، أكانت هذه المواقف إيجابية أم سلبية، تجاه ما قد يَعِنّ لها من أحداث أو تطورات. والمسكوت عنه في النهاية هو الرغبة التي تزكيها مصالح فئات اجتماعية متحكّمة في الاقتصاد وفي السياسة، في استمرار الهيمنة الفرنسية في مجالات حيوية كثيرة داخل كل بلد مغاربي. مع العلم تماما أن المصالح المشار إليها هي بالتعريف: مصالح طبقات أو فئات اجتماعية لا ترى في غربتها الثقافية واللسانية أيا من أشكال التبعية أو الانحياز أو الانتماء. وأعني بهذا أن الفرنكفونية ليست قضية جوهرية تحدّد المصالح تحديدا حاسما، وتبني الاختيارات بناء محكما، وإنما هي غطاء إيديولوجي لـ"ترسيم" سياسة خاصة في البلدان التي كانت لفرنسا فيها الأثر والدور والمعروفين، تاريخيا وفعليا، لكل باحث في الاستراتيجية الاستعمارية والإمبريالية الما فوق وطنية (Supranacional).
الفرنسية اليوم في معظم الدول المغاربية، رغم سياسات التعريب (التغريب) التي سُنَّت بحماس وطني في بداية الاستقلال أو بعده، هي اللغة الوحيدة، من حيث الأهمية والعدد، التي تنافس باقي اللغات الأخرى بنوع من الأحقّية التاريخية، لأن لها نخبها، عميلةً كانت أم لا، ولها أبنيتها، ومنها المنظمة الفرنكفونية وهي ليست فريدة، ولها مجالها الحيوي في الإدارة والثقافة والفكر. ورغم الاعتراف في بعض البلدان بالأمازيغية (في الجزائر كلغة وطنية، وفي المغرب كلغة رسمية)، علما أن العربية قائمة، وهي لغة القرآن والسنة والمذهب المالكي، و"الدَّوارج" المنطوقة تضيق بالاختلاط الذي شابها بلغات أخرى، فإن الفرنسية تنافس وترتبط أكثر بالاقتصاد المبَنيِ على السوق والتداول، ولن تتغير، مهما كانت التناقضات ورغم ما يقال عن منافسة الإنجليزية أو الإسبانية (حالة المغرب) لها، إلا إذا تغيّرت طبيعة الاقتصاد الرأسمالي التبعي. خلاصة أستخلصُها، بعد مرور أزيد من ستين سنة، مما استشعره رواد الفكر الوطني المغربي من أمثال علّال الفاسي وعبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة ومحمد حسن الوزّاني، من حذر في التوجه الرامي، منذ الاستقلال، إلى ربط التنمية باللغة الفرنسية، على حساب "مغربة الحياة السياسية والثقافية". ومن المفهوم أن ذلك لم يأت أكله (كُلَّ حينٍ)، "ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون" (سورة إبراهيم: 25).