04 نوفمبر 2024
في زعامة مقتدى الصدر
لم يعد الخبر بشأن الانتخابات النيابية التي انتظمت في العراق أخيراً أن نسبة المشاركين فيها قلّت كثيرا عن سابقاتها في دورات ما بعد انعطافة العام 2003، وإنما الخبر أن مقتدى الصدر غدا الشخص الأهم لنسج تحالفات تشكيل الحكومة المقبلة، وتسمية رئيسها، بل في الوسع اعتباره الآن رجل العراق الأول. ولمّا كان موصوفا بأنه الزعيم الديني، أو رجل الدين الشيعي، فإن موقعه المستجد، وكذا التشابكات التي أقامها في بنائه تحالف "سائرون" (54 مقعدا)، بل وأيضا نشاطه المدني والميداني إبّان أنفاس ربيعٍ عراقيٍّ عارض، كل هذه التفاصيل، وأخرى غيرها غير قليلة، تجعل صفة مقتدى الصدر زعيما دينيا فحسب قاصرةً، وإنْ تساندها عمامتُه، وشيعيّته الظاهرة، ونسبُه إلى عائلةٍ ذات موقع ودور مشهوريْن في الفضاء العراقي الشيعي. ثمّة تنويعٌ جوهريٌّ وبالغ الأهمية يحدث الآن في هذه الشخصية، يجعلها سياسيةً تماما، أو سياسيةً بمقادير أوسع كثيرا من سمْتها الديني، المذهبي المعلوم.
يصنع مقتدى الصدر مسافاتِه من إيران، ويخاصم الولايات المتحدة، وهو الذي انفرد، شيعيا، بمحاربتها إبّان الاحتلال. ويطالب بشّار الأسد بالتنحّي، ويزور الرياض وأبوظبي اللتين تحاربان الحوثيين في اليمن. ويأتي بالحزب الشيوعي حليفا له في "سائرون"، فيكسب هذا الحزب 13 مقعدا في البرلمان. وترتاح أوساط عراقية سنيّة واسعةٌ لتصدّر الصدر نتائج الانتخابات، وهو الذي يحافظ على نجاحاته الانتخابية في مواسم "العملية السياسية" ما بعد العام 2003. ويتقدّم اعتصاماتٍ ومظاهراتٍ ضد الفساد، ويلحّ على وجوب حربٍ ضد هذه الظاهرة السوداء في العراق. ويبحث عن "المشتركات" مع تياراتٍ وفاعلياتٍ سياسيةٍ في البلاد، ويبني عليها تقاطعاتٍ مرحليةً مع مقادير من المبدئية، ولا يتهاون في مناهضته خصومه في ضفافٍ سياسيةٍ لا تروق له. وتتبدّى عنده خيوطٌ ظاهرةٌ تُمايز بين شيعيةٍ إيرانيةٍ (هل نقول فارسية؟) وشيعيةٍ عربيةٍ عراقيةٍ. وهو لا يعلن عداءً لإيران، وإنما انتقاداتٍ لها غير قليلة، ويتحدّث، صراحة أو تلميحا، عن رفضه هيمنتها على بلده. ..
تلك كلها، وأخرى غيرها، معطياتٌ تجيز قولا قاطعا إن مقتدى الصدر زعيمٌ سياسيٌّ تماما، وصاحبُ دور مدني في المشهد السياسي في بلده. وهذا هو الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، تقول أخبارٌ إنه يطبخ في بغداد تحالفاتٍ تحدّ من حركة مقتدى الصدر للإمساك بمسار مداولات تشكيل الحكومة ومفاوضاتها المتوقع أن تكون عسيرة، بتعضيد مجاميع هادي العامري (الحشد الشعبي) ونوري المالكي في تحالف الفتح (47 مقعدا) وما تيسّر من أسماء يمكن لملمتها، للتأثير على الزّخم الذي يحوزه الصدر، وهو ينشط في اجتماعاتٍ مع حيدر العبادي (تحالف النصر، 42 مقعدا)، ومع عمّار الحكيم، وغيرهما، في سبيل تصليب جبهةٍ سياسيةٍ حاكمة، لا يقترب منها أيٌّ من ذوي الهوى الإيراني الثقيل، والمعادين إلى حد ظاهر أي توجه عربي للعراق.
في أثناء هذا التدافع السياسي بين طهران ومقتدى الصدر، وظلال التنازع الإيراني الأميركي، لا يملك واحدُنا سوى انتظار مآلات المداولات الصعبة، الجارية الآن. ولكن، ثمّة غيرُ هذا يُؤمل انتظاره، وهو انفتاح عربي على مقتدى الصدر، لا يتركه وحيدا، فهو يحتاج إلى كل إسناد ممكن. وهذا كلامٌ لا يغيّب تسليما بديهيا بأن مقادير التقصير العربي في الانفتاح الواسع على العراق كله فادحةٌ، وبأنه يقع على دولٍ عربيةٍ، كنا نظنها وازنةً وكبرى، كثيرٌ من المسؤولية في ترك العراق نهبا للنفوذ الإيراني، سيما الوقح منه في إبعاد هذا البلد عن فضائه العروبي، ثقافةً واجتماعا. ويمكن القول، بلا حرج، إن فشلا معيبا أحرزته تلك الدول العربية التي كان يفترض بها أن تُبادر إلى ما يصون عروبية الشيعية العراقية التي نجحت طهران، إلى حدّ كبير، في إلحاق مساحاتٍ منها برهاناتٍ إيرانيةٍ طائفيةٍ، لم تجد حرجا في كشف سفورها، مرات ومرات.
هذا هو مقتدى الصدر يبني زعامته على مقادير معلنةٍ من العروبيّة، وعلى براغماتيةٍ لا تتساهل بشأن ثوابت مبدئية تخص عراقاً غير إيراني اللون، وعلى تنويعاتٍ مدنيةٍ متقدمة. وإذا ما تأتّى له نجاحٌ في تزعم حالةٍ وازنةٍ في الحكم والسلطة في العراق، فإن همّةً عربيةً مطلوبةً باتجاهه.. هل ننتظر، أم نقيم في الخيبات إياها وكفى؟