في ذكرى عرفات .. أزمة قيادة فلسطينية مستمرة

11 نوفمبر 2021
+ الخط -

تأتي الذكرى السابعة عشرة لاستشهاد الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات (11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2004) في ظروف فلسطينية سلبية للغاية، تفتقر لقيادة بمستوى ما كانه أبو عمار، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معه في بعض ممارساته أو في محطّات سياسية عديدة، فقد ظل أمينا للثوابت الفلسطينية الوطنية، وفي مقدمتها حق العودة لفلسطينيي 1948 والقدس الموحدة عاصمة لدولة فلسطين، وحافظ بعناد على استقلالية القرار الفلسطيني بحنكة وصلابة لم تثنياه عن مواجهة مؤامرات التصفية ضد المقاومة، التي شنتها بعض الأنظمة العربية، كالأردن في ما سميت أحداث "أيلول الأسود"، أو التي حاولت مصادرة القرار الفلسطيني، وفي مقدمها النظام السوري في عهد الرئيس حافظ الأسد وحروبه المتعاقبة مع الفلسطينيين في بيروت وبحمدون وجبل صنّين في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ثم معارك البقاع وطرابلس التي أعقبت خروج الفلسطينيين من بيروت بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ثم حصار المخيمات (أواخر الثمانينات) قرابة ثلاث سنوات.

تفتقد الساحة الفلسطينية في أزماتها الراهنة قيادات بوزن ياسر عرفات وحنكته وإخلاصه لقضيته ولشعبه، على الرغم من انتقادات كثيرة طاولته من داخل حركة فتح وخارجها

جاء اغتيال عرفات إثر حصار طويل لمركز الرئاسة الفلسطينية في رام الله، قام به جيش الاحتلال عدة أشهر أدّى إلى تدهور صحته، ونُقل على أثره إلى مستشفى عسكري فرنسي، حيث وافته المنية هناك. وبعد سنتين من وفاته، طالبت أرملته سها عرفات بفحص رفاته، نتيجة شكوك فلسطينية وعربية قوية بأنه قضى اغتيالا. وتبين في تحاليل أجراها معهد سويسري للتحاليل الإشعاعية على عينات من رفاته وجود كميات من البولونيوم المشع، رجّحت تقديرات أنها السبب في وفاته مسموما.

في ذكرى رحيل الرمز والأيقونة لملايين الفلسطينيين والفلسطينيات في الداخل وبلدان اللجوء والشتات، تفتقد الساحة الفلسطينية في أزماتها الراهنة قيادات بوزنه وحنكته وإخلاصه لقضيته ولشعبه، على الرغم من انتقادات كثيرة طاولته من داخل حركة فتح وخارجها. تفتقر لقيادة بل لقيادات حكيمة مخلصة، ولو بالحد الأدنى لمفهوم القيادة التي كانت لياسر عرفات. وإن كانت هنالك محطات عديدة يتم فيها انتقاد سلوكه القيادي المتفرد الذي تسبّب في زرع بذور المعوقات التي تبدّد النضالات الفلسطينية الحالية على مستوى قيادة النضال الوطني الفلسطيني لما مثّله من نموذج لم يعد كافيا لمواجهة تحدّيات لم يُشهد لها مثيل في التاريخ العربي. على الرغم من ذلك، ما يزال عرفات يحوز محبة شعبه، بسبب المصداقية القيادية والحنكة السياسية في إدارة شؤون شعبه وقضيته في أحلك اللحظات السياسية حرجا، وهي محبّة لم ينلها أي قائد فلسطيني قبله أو بعده.

إقدام إسرائيل المتكرّر على استهداف قيادات الصف الأول والصفوف التالية بالاغتيال أو الأسر دليل على أهمية القادة في مجريات الصراع، وتأكيد على الدور الحاسم الذي يمكن لهم/ن أن يلعبوه

جزء أساسي من حالة العجز السياسي الوطني الفلسطيني العام على مستوى النخبة الفلسطينية، بكل قطاعاتها السياسية والثقافية والاجتماعية، بل والنسوية أيضا، وانسداد الأفق نحو التغيير، هو عجز الفلسطينيين والفلسطينيات عن تأطير قيادة فلسطينية لا تحاول فقط احتكار السلطة بشخصها منفردة وتحيك المؤامرات وتمارس المحسوبية أو الشعبوية الرخيصة، بل أيضا تنتهك أبسط قواعد القيادة، الإصغاء، فالسعي نحو الزعامة ظاهرة مرضية في الراهن الفلسطيني، تسيطر على المشهد النضالي وملتقيات ونواد ومؤسسات مدنية فلسطينية، وتعرقل نشوء قيادات وطنية جديدة تقود النضال الوطني ضمن رؤية جديدة للنضال. إذ ما تزال العقلية الذكورية والقبلية التي أنتجت "مجتمع الأبوات" تعشّش في الخلفية الذهنية للنخب الفاعلة، حتى "ديمقراطية التوجه" وأكثرها تقدّمية، وتستيقظ تلك العقلية عند محكّ الممارسة، فتدفع أفرادا من هذه النخب إلى سلوكيات التفرّد، بعيدا عن الممارسات الديمقراطية وثقافة قبول الاختلاف ضمن النسق النضالي العام. وهذا ما يفسّر استمرار ظاهرة الانقسام، بل وتمدّدها إلى فلسطينيي 1948. ولعل الانشقاقات التي حصلت في القوائم الانتخابية لدورة الكنيست أخيرا أبلغ مثال على تكرار الفلسطينيين للخسارة المتأتية من تغليب الأنانية السياسية الحزبية والفردية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني. مع ذلك، لا يفتقد هذا الشعب مناضلين ومناضلات ذوي كفاءة نضالية عالية وشجاعة منقطعة النظير ومهارات سياسية ومعرفية رفيعة المستوى تؤهلهم/ن للعب أدوار قيادية مستدامة. لكن عقلية التفرد ومرض الزعامة يحولان دون هذا. وطالما بقي مفهوم القيادة ينطوي على صورة الزعيم الفرد الذي يحوز دائرة الضوء بمفرده أو يسعى إلى أن يفعل، فإن إشكالية أزمة القيادة الفلسطينية الرشيدة ستستمر بأن تكون معضلة يصعب حلها.

الفشل في تأطير الانتفاضتين، الأولى والثانية، والهبّات الوطنية الفلسطينية المتكرّرة، أيا تكن تسميتها، ضمن أطر تنظيمية وجبهوية وطنية عريضة وديمقراطية، هو فشل في إفراز قيادات شبابية ونسوية جديدة، بالأساس، تقوم بهذه المهمة. وعلى الرغم من تنامي الوحدة الوطنية الاستثنائية في الهبة الوطنية الشاملة في الداخل والشتات أخيرا، فإن أزمة إيجاد قيادة بديلة تمتلك روح الإرادة، التي كانت للزعيم الراحل، تبدو عصيةً على الحل، فالنضال المتواصل طويل الأمد يحتاج صناعة قيادات جديدة من لدن هذه الهبات، وبعيدا عن الفردية والتفرّد، وأقرب إلى عمل الفريق القيادي المتناسق، حتى بحده الأدنى الذي عمل عليه عرفات ورفاقه منذ الخمسينات، كخليل الوزير وفاروق القدومي وصلاح خلف وغيرهم. حل إشكالية أزمة القيادة أو الفريق القيادي البديل كفيل ببلورة العمل النضالي ضمن مؤسسات وطنية فاعلة، تشمل قطاعات متنوعة، هي أقرب إلى مأسسة دولة فلسطين تحت شعار الوحدة الوطنية، بوصفها ثابتا يحظى بأولوية النضال الفلسطيني عند القادة الجدد، فالإخلاص والتضحيات الجسام لا تعفي النخب الفلسطينية الفاعلة على أرض النضال اليومي أو في مراكز البحث والجامعات من مهمة صناعة القادة العظام وتمهيد الطريق لهم/ن ضمن خطة واضحة ومدروسة لبناء القادة المستقبليين من الجنسين.

صنع القيادات الوطنية أو تأهيلها لتصل إلى مستوى من الحنكة والإرادة الصلبة والنفس الطويل والفكر الديمقراطي مهمة وطنية عليا

إقدام إسرائيل المتكرّر على استهداف قيادات الصف الأول والصفوف التالية بالاغتيال أو الأسر دليل على أهمية القادة في مجريات الصراع، وتأكيد على الدور الحاسم الذي يمكن لهم/ن أن يلعبوه. طبعا، إن أجادوا القيادة، بوصفها طريقا لتوحيد الصفوف لا لشقّها. وعلى الرغم من هذا الاستهداف الإسرائيلي المستمر، لم تكبح الرغبة المرضية في الزعامة الفردية النشطاء ورفاق النضال من العمل على احتكار الأضواء. بل باتت هذه السمة مسعىً ضمنيا سرعان ما ينجرف إليه أفضل المناضلين. إذ بنظرة سريعة إلى تجارب الأحزاب أو المجموعات السياسية الناشئة أو حتى المنتديات والملتقيات الثقافية والوطنية عموما، يمكن ببساطة رصد سلوكيات التفرّد ومحاولات كسب الشهرة الفردية لتسيُّد هذه المجموعات والأحزاب، بل وربما مؤسسات المجتمع المدني أيضا. وليس الحديث هنا فقط عن حركة فتح أو حماس، فعنهما حدّث ولا حرج، ولا الأحزاب الفلسطينية السياسية داخل الأراضي المحتلة في 1948، أو في بلدان اللجوء والشتات، بل أيضا عن منتديات وملتقيات تتأسّس من أكاديميين وإعلاميين وأدباء وباحثين، رجال بالغالب ونساء بدرجة أقل، يبرعون بتوجيه "انتقادات محقّة للتجربة الوطنية الفلسطينية الحديثة (بعد انطلاقة الثورة عام 1965)، بل وقيادات تلك التجربة" وفي مقدمتهم ياسر عرفات، لنجدهم/ن بعد حين، ومنذ بدايات تأسيس منتدياتهم وملتقياتهم أو مجموعاتهم، يسيرون على نهج ما ينتقدونه، بل ربما أسوأ. إذ سرعان ما تبرز سلوكيات التفرّد والسعي إلى تزعم ذاك المنتدى أو الملتقى أيضا.. وهم/ن بالكاد "بالقصر من مبارح العصر". بل يخفقون في احترام الرأي الآخر، أو تشجيع التعدّدية في رؤية الجوانب المختلفة للمشهد الفلسطيني، وتاليا تحديد النضالات المناسبة لإيجاد حلول شاملة للقضية الوطنية الفلسطينية. هذا التفرّد المرضي وظاهرة السعي المرضية نحو الزعامة (تحدّث عنها عزمي بشارة بعمق في أحد كتبه بوصفها ظاهرة عربية أعم) تدفع عديدين من المشاركين والمشاركات في هذه المنتديات والملتقيات والحركات السياسية الناشئة إلى "الانكفاء"، أو يُصار إلى تجاهل أو تهميش آرائهم/ن أو مشاركاتهم/ن ممن يقومون بالتفرد سعيا إلى تبوؤ تلك المنتديات أو الملتقيات أو أية أطر ناشئة. يقود التفرّد تاليا إلى تبديد للطاقات وزرع بذور الفرقة. بل إشاعة اليأس من إمكانية إشاعة وعي ديمقراطي وثقافة تشاركية تسمح ببروز قيادات حكيمة مخلصة ، بعيدا عن الشخصنة والفردية، وأقرب إلى عمل فريق قيادي يمكن له أن يتوزّع مهام النضالات، سياسية أو مدنية أو معيشية أو صحية أو ثقافية .. إلخ.

يتطلب التجديد بالرؤية الوطنية النضالية أيضا فريق عمل "قيادي": يقود ويفكّر ويخطط، ويعمل ميدانيا مع الناس على الأرض، ويتلمس مشكلاتهم ويسعى إلى حلها جنبا إلى جنب مع سعي حثيثٍ إلى تدريب كوادر جديدة تردف النضال بدماء جديدة على الدوام، تولد من قلب الأحداث اليومية. معظم من يعمل في الشأن السياسي في حركات ناشئة أو ممن أسّسوا منتديات وملتقيات ومؤسسات مدنية وغيره لم يتمكّنوا من الارتقاء إلى القليل مما كانه الزعيم الراحل (أو كانه رفاقه من المؤسسين الأوائل)، ليس فقط في الحنكة والوفاء للثوابت الوطنية والنفس الطويل، وإنما أيضا بذل الجهد الكثيف، وهو ما يُشهد له ولهم على الدوام (حتى لقيادات من فصائل أخرى، كجورج حبش مثلا). صنع القيادات الوطنية أو تأهيلها لتصل إلى مستوى من الحنكة والاحتراف والإرادة الصلبة والنفس الطويل والفكر الديمقراطي مهمة وطنية عليا، وهي شرط أساس لتحرير فلسطين، ولتأطير "الهبّات الوطنية الفلسطينية" بدل أن تضيع إنجازاتها وتتحوّل إلى أوراق ذكرى تذروها الرياح. وإلى أن تُحل معضلة القيادة الفلسطينية المبتغاة، سيفتقد الفلسطينيون والفلسطينيات دوما زعيمهم الراحل ياسر عرفات. سيفتقدونه حد البكاء ويترحّمون على أيامه.