في ذكرى رحيل عزيز بلال
حلّت قبل أيام الذكرى الأربعون لوفاة المفكر الاقتصادي المغربي عزيز بلال، الذي قضى، في ظروف غامضة، في شيكاغو بالولايات المتحدة في 23 مايو/ أيار 1982. وقد توفي في حريق بالفندق الذي كان يقيم به على هامش زيارته التي كانت مخصّصة لإبرام اتفاقية توأمة بين مدينتي الدار البيضاء وشيكاغو. وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات على رحيله، لا يزال إرثه الفكري والنضالي والسياسي يثير الاهتمام في المغرب، في ظل تواتر السياسة الاقتصادية ذاتها التي انتقدها وكشف قصورها، وبالأخص بعد أن أصبحت هذه السياسة، بكل اختلالاتها البنيوية، العنوان البارز للاقتصاد المغربي.
ولد عزيز بلال في مدينة تازة (1932)، والتحق مبكّراً بالحزب الشيوعي المغربي. وكان أول مغربيٍّ ينال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد (1965) عن أطروحته عن الاستثمار في المغرب ما بين 1912 و1964. شغل عدة مناصب بعد الاستقلال، وكان أحد مهندسي المخطّط الخماسي (1960-1964)، ما مكّنه من أن يقف على العوائق البنيوية التي تحول دون تحقيق تنمية متوازنة. وبالتوازي مع ذلك، كان قيادياً ومنظّراً بارزاً داخل حزب التقدّم والاشتراكية (الشيوعي سابقاً). كما كان من مؤيدي الانخراط فيما سمّي ''المسلسل الديموقراطي'' (1974)، فتقدّم إلى الانتخابات الجماعية (1976) مرشّحاً عن حزبه، وفاز بأحد مقاعد بلدية عين الدياب بالدار البيضاء. وبذلك جمع بين الأكاديمي والجامعي المتمكّن من تخصصه، والمناضل الملتزم بمبادئ حزبه، والمثقف العضوي المشتبك بقضايا الناس ومشكلاتهم.
كان عزيز بلال شاهداً على الأزمة التي شهدها الاقتصاد المغربي نتيجة الأزمة النفطية (1973) وتراجعِ أسعار الفوسفات في الأسواق الدولية وارتفاع عجز ميزانية الدولة وغياب بدائل اقتصادية ناجعة. ومن ثَمَّ، شكّل اقتصاد التنمية، بالنسبة له، مدخلاً لفهم العوامل التي تحول دون تحرّر المغرب، والبلدان النامية بشكل عام، من هيمنة النظام الرأسمالي، إذ رأى أن استمرار هذه الهيمنة لا تقترن فقط بالسياسات الاقتصادية التي تتبعها هذه البلدان، والتي تُركّز، أساساً، على ما هو اقتصادي ومادي، بل تقترن، أيضاً، بالبنيات الاجتماعية والثقافية التي تستوجب، حسب بلال، توظيفها في معالجة معضلة التنمية. وبذلك كشف حدود المقاربتين الاقتصادوية والتقنية اللتين تغفلان دور هذه البنيات، وسلّط الضوء على أهمية الرأسمالين الثقافي والرمزي، في اجتراح مسارات جديدة لتحقيق التنمية.
شكّل عزيز بلال، إلى جانب سمير أمين وفِرناندو كاردوسو وبول باران وراوُول بريبيش وآخرين، أبرز منظري مدرسة التبعية في الفكر الاقتصادي. وفي هذا الصدد، كان كتابه ''التنمية والعوامل غير الاقتصادية'' (1980) خروجاً عن المألوف في الفكر الاقتصادي المغربي الذي كانت معظم كتاباته ترى في التنمية المادية والاقتصادية مدخلاً رئيساً لأي نهضة تنموية.
لا تزال القضايا التي طرحها عزيز بلال في كتاباته تحتفظ براهنيتها بعد إخفاق السياسات والبرامج التي انتهجتها الحكومات المغربية التي تعاقبت طوال العقود المنصرمة؛ إخفاق يعود، في جانب كبير منه، إلى غياب رؤيةٍ واضحةٍ لمعضلة التنمية، تربط بين أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجالية والثقافية، وتأخذ بالاعتبار الدورَ المركزي الذي يفترض أن يلعبه القطاع العام في جرّ قاطرة التنمية والبحث عن حلول ناجعة للصعوبات التي تعترضها. وقد كشفت جائحة كورونا، في المغرب ومعظم بلدان الجنوب، التكلفة الباهظة لتراجع الاستثمار العمومي في القطاعات الاجتماعية الحيوية، وفي مقدمتها التشغيل والتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية. وكشفت أيضاً أهمية البعدين الجهوي والمجالي في بلورة سياسات تنموية أكثر اندماجاً بمحيطها الاجتماعي والثقافي.
ختاماً، ليس مبالغة القول إن الكثير من أفكار عزيز بلال واجتهاداته تبدو حاضرةً في النموذج التنموي الجديد الذي يُفترض أن الدولة ماضية في تنزيل مقتضياته، لا سيما فيما يتعلق بإيجاد الثروة والتوزيع العادل لها وصيانة كرامة الإنسان.