في ذكراها العاشرة .. لماذا أخفقت ثورة يناير؟
مع نسائم صباح الثلاثاء، الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، انطلقت مجموعاتٌ من الشباب في أحياء مصرَ المحروسة تنادي في الشعب المصري: "يا أهالينا.. انضموا لينا". ..
كان شعب مصر وكأنه ينتظر فرصةً مواتية للخلاص من الظلم والقمع والاستبداد الذي جثم على صدر الوطن العزيز ثلاثين عاماً، وإن شئت فقل لستين عاماً. عقود طويلة جثم فيها نظام غاشم على صدور المصريين. بدد ثرواتِ الوطن، وأضاع كرامته، وسكن الفاسدون وعائلاتهم القصورَ والاستراحاتِ الفارهةَ في شتى أنحاء مصر، في الوقت الذي سكن فيه الملايين من رعاياه العشوائيات والمقابر.
نظام أناني غلب عليه الجشعُ والطمع، ورضي بأن يتحالفَ مع بضع عشراتٍ من العائلات التي احتكرت الثروةَ والسلطة في مصر، وحَرَم شعبَه من أبسط الحقوق السياسية والاقتصادية. نظامٌ ضبط بوصلتَه على تحقيق رضا السيدِ الأميركي، ورَهَنَ قرارَه به، فلم يكن يعطي أدنى اعتبارٍ لرأي الشعب.
لقد حَرم المصريين من إبداء رأيهم في شؤون بلدهم ومعاشهم، بل صادر هذا الرأيَ في انتخاباتٍ واستفتاءاتٍ أدمن تزويرَها بشكل فاضح، لتصل نتيجتُها إلى أربع تسعات، حتى صار العالمُ يتندر عليها. بل إنه لم يكتفِ بالتزوير، وراح، في بعض الأوقات، يمنع بعضَ المعارضين من مجرّد الترشح أو حتى التفكير فيه. وأصبحت عادة النظام أن يستبق كل انتخاباتٍ بحملات اعتقالٍ للآلاف من المعارضين لسياساته. حتى جاءت انتخابات عام 2010 التي سبقت ثورة يناير بأسابيع قليلة، فوصل به الجشع السياسي إلى السيطرة على البرلمان كاملاً، فلم ينجح من المعارضة أحد!
نجحت الثورة في إسقاط رأس النظام، لكنها أخفقت أو تغافلت عن إسقاط النظام ومؤسساته وأذرعه
وكانت القشةَ التي قصمت ظهر البعير، ودفعت قوى المعارضة إلى الوحدة ضد طغيان النظام.
كانت ثورة تونس الخضراء فاتحة للربيع العربي، وشاء الله لها أن تنتصر، ويستقلّ رأسُ النظام طائرته هارباً بعائلته.. وتتحرر تونس من نظام استبدادي فاسد؛ الأمر الذي شجّع الطامحين إلى الحرية في مصر وليبيا واليمن وسورية، الذين كانوا يعيشون في أجواء داخلية مواتية تمامًا. وكان موعد مصر مع هذه الملحمة الوطنية الكبيرة في الخامس والعشرين من يناير قبل عقد من الزمان.
خرج المصريون في هذا اليوم الأغر بمختلف توجهاتهم وأعمارهم، وكان الشباب في مقدّمة من خرجوا، وفي مقدمة من ضحَّوا بأرواحهم، وبذلوا من دمائهم وحريتهم. كان الشعار الأثير الذي ترجم مطالب كافةِ القوى الثوريةِ هو: عيش.. حرية.. كرامة إنسانية.. عدالة اجتماعية، والشعب.. يريد.. إسقاط النظام.
ونجحت الثورة في إسقاط رأس النظام، لكنها أخفقت أو تغافلت عن إسقاط النظام ومؤسساته وأذرعه. لقد نجح الشعب المصري في التخلص من رأس النظام الاستبدادي، لكنه لم يحصل على ما ثار من أجله، وهو تحقيق العيش والحرية والكرامة والعدالة، وكان هذا كله رهنًا باقتلاع جذور النظام مع رأسه المتعفّن في آن واحد. بل نجحت المؤامرة في إجهاض الثورة والانقلاب عليها، وتحويل حياة المصريين إلى وضع أسوأ بكثير من ذلك الوضعِ الذي ثاروا عليه.
لستُ هنا ممن يعيش بالذكريات، أو يسوّق الأمنيات. "فما نيل المطالب بالتمنّي/ ولكن تُؤخَذُ الدنيا غِلابا". كما أنني لست ممن يوزعُ المسكِّنات أو المخدِّراتِ لتسكين عواطف الجماهير، ولجم حماس الشباب الطامحين للتغيير، فالكلمة رسالةٌ ومسؤوليةٌ سيحاسبنا الله عليها.
اصطف الإسلاميُّ والليبراليُّ، القوميُّ والوطني، الشابُّ والشيخ، المسلم والمسيحي في ميدان واحد
إننا اليوم وقد مضى على الثورة عقد من الزمان، كما مضى على الانقلاب عليها ما يقارب الثماني سنوات، أرى لزاماً على كل قوى الثورة، على شبابها وشيوخها، رجالِها ونسائها، أن يقفوا وقفةَ تأملٍ ومراجعة، تحليلٍ وتقويم: لماذا نجحت الثورةُ في أول انطلاقِها؟ ولماذا أخفقت في مراحلَ تالية؟ ألم تنجح بوحدة قواها خلفَ مطالبَ محدّدة، وكانت القوة في هذه الوحدة؟
لقد اصطف الإسلاميُّ والليبراليُّ، القوميُّ والوطني، الشابُّ والشيخ، المسلم والمسيحي في ميدان واحد. ألم تنتصر الثورة عندما أنكر كل منّا ذاتَه؟ ألم تكن ثورةً سلميةً بيضاءَ لم ترتكب عنفاً، وكان هذا سر قوتها؟ ألم تُجمع قوى الثورة على مطالبَ محددةٍ وجامعةٍ، تتلخص في العيش والحرية والكرامة والعدالة؟
في المقابل: لماذا أخفقت الثورة، وتعطلت مسيرتُها؟ ألم ينجح المتآمرون في اللعب بنا قبل أن نغادرَ ميدان التحرير؟ ألم نختلف معاً في أول اختبار لنا بعد سقوط مبارك بشهر واحد، ويتحوّلِ الاستفتاء على التعديلات الدستورية إلى معركةٍ بين نعم ولا؟ ألم تنشغل قوى الثورة بالتسابق على غنائمِ النصرِ قبل اكتمال الثورة؟ ألم يختلف الشركاء وينقسموا إلى أنصار البرلمان وأنصار الميدان؟ ألم نُقِم معركة حول إعطاء الأولوية لصياغة الدستور أو لإجراء الانتخابات؟ ألم نفشل في خوض الانتخابات متوافقين؛ ليضمن كل فصيل وجوداً نسبياً في إدارة شؤون الوطن، وخضناها متنافسين ليسود أسلوب المحاصصة والمغالبة وينقسم البرلمان إلى قوى إسلامية وأخرى مدنية أو علمانية؟ ألم يخوّن بعضنا بعضًا فكانت النتيجة أن تمزّق صفنا، وحق علينا قول ربنا: "ولا تنازعوا فتفشلوا"؟ ألم يستدعِ فريقٌ ممن كانوا في صفوف الثورة الجيشَ للانقلاب على الرئيس المنتخب، ظناً منهم أن الجيش سيضع السلطة في حجرهم؟
.. معسكر الثورة الآن في وضع لا يحسد عليه؛ فكثير ممن قاموا بالثورة أصبحوا بين شهيد أو سجين أو معتقل في مصر، ومن نجا من ذلك المصير فهو يعيش في وطنٍ تحوّل إلى سجن كبير، حتى أصبح يوصف بـ "جمهورية الخوف" التي لا تسمح إلا بالصوت الواحد يردّد ما تمليه عليه سلطة الانقلاب وأذرعها، أو نجا بجسده بعد أن هاجر من الوطن وعاش في الخارج.
من الظلم أن نحكم على الثورة بالفشل في تجربة الحكم، بل من الإنصاف أن نفخر بإنجازات الثورة على الرغم من محدوديتها
استحضارنا اليوم لذكرى ثورةِ الشعب، على الرغم من صعوبة الموقف، يدعونا إلى الأمل.. الأمل في غدٍ أفضل، والأمل في وطن حر، الأمل في نهاية الظلم والطغيان، والأمل في تحقيق الشعار الذي نادت به الثورة ولمّا يتحقق بعد، وهو العيش والحرية والكرامة والعدالة.
نخطئ كثيراً في حق أنفسنا وشعبنا إذا حولنا الثورة إلى ذكرى. نجترّ أحداثها وآلامها ومآلاتها. ونكتفي بالبكاء على اللبن المسكوب. لكن الواجب أن تكون الذكرى دافعاً إلى الأمل والعمل.
يقول بعضهم إن الثورة لم تحقق شيئاً من شعاراتها التي رفعتها. .. ونقول لهم: وهل حكمت الثورة؟ الثورة لم تحكم إلا لعام واحد فقط، وسط عراقيل لا يعلم مدى شيطنة من وضعوها في طريق حريتنا وكرامتنا إلا الله.. فهل نحاسبها على عدم إنجاز ما طمحت له الجماهير؟ من الظلم أن نحكم على الثورة بالفشل في تجربة الحكم، بل من الإنصاف أن نفخر بإنجازات الثورة على الرغم من محدوديتها.
يكفي أبناء الثورة فخراً أنهم عملوا لوطنهم ولم يعملوا لأنفسهم. يكفي الثورة أنها أفرزت برلماناً حرّاً شهد أكبر مشاركة شعبية في تاريخ البلاد، وكانت صفوف الناخبين تمتد مئات الأمتار، وكانت عملية التصويت في بعض اللجان تستمرّ إلى الساعات الأولى من الصباح. يكفي الثورة أنها قدمت لمصر أول رئيس مدني منتخب، رزقه الله العلم والعمل، والزهد والورع، ومخافة الله في شعبه، فجاء ليخدم وطنه، وأصرّ على البقاء في سكنه بين الشعب يعيش مع الناس، ويصلّي معهم، ويغشى أسواقهم ومنتدياتهم. وترفّع عن امتيازات المنصب، وتنازل عن راتبه ومخصصاته وامتيازاته، وقال سأتقاضى راتبي عندما يكتفي الشعب.
عندما أرادت السعودية فتح النقاش حول جزيرتي تيران وصنافير مع الرئيس محمد مرسي مقابل المساعدات رفض بشكل قاطع
يكفي الثورة أنها صاغت دستوراً عظيماً سبق الكثير من دساتير العالم في انحيازه لحريات الشعب وحقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يكفي الثورة أنها أفرزت حكومةً كانت تخضع لمراقبة الشعب قبل مراقبة البرلمان، وكان وزراؤها يعملون بصفتهم أجراء عند الشعب خُدّاماً له، وتنازلوا عن امتيازاتهم ومخصصاتهم لصالح الشعب. يكفي الثورة فخراً أن مصر في عام حكمها كانت غير مرتهنة الإرادة أو القرار. ولم ينتقص من ترابِها أو ماءِ نيلِها أحدٌ. يكفي أن نذكّر بأن السعودية عندما أرادت فتح النقاش حول جزيرتي تيران وصنافير مع الرئيس محمد مرسي مقابل المساعدات رفض بشكل قاطع. وعندما أثارت إثيوبيا قضية السد، وأدركت إدارة الرئيس تأثيره على حقوق مصر المائية، قال الرئيس مقولته الشهيرة: "إن نقصت قطرة من ماء النيل فدماؤنا هي البديل". وجعل كل الخيارات مفتوحة، بما فيها خيار الحرب إن اضطررنا إليه. وكان تعامله مع ملف النيل "بالسلم كلما أمكن وبالحرب إن لزم". كان المصريُّ حينها عزيزاً كريماً فخوراً بانتمائه، مستحضراً شعار الثوار في ميادين التحرير: ارفع راسك فوق إنت مصري.
يكفي الثورة فخراً أن الوطن كان مهابَ الجانب، لم يجرؤ أحد على النّيْل منه، أو التطاول على أبنائه. يكفي الثورة فخراً أن رئيسها وبرلمانها وحكومتها رفضوا أية قروض أو مساعداتٍ مشروطة، أو يمكن أن تسبب زيادة في أعباء المصريين.
ويكفي الثورة فخراً أن الكيان الصهيوني، في هذا العام الذي حكمت فيه، لم يجرؤ على التمادي في اعتداءاته على أهلنا في غزة، وأُجبر على وقف عدوانه بعد تهديد رئيسِ مصرَ الثورةِ له، بل حصل الفلسطينيون في غزة على مكاسب عديدة مقابل الموافقة على الهدنة في حينِها. يكفي الثورة فخراً أن كرامة المصريين في الخارج كانت مصونة، وإذا حدثت مشكلة لأي مصري في الخارج كان الرئيس وحكومته يواصلون جهدهم حتى يتم حلها. ويكفي هنا أن أذكّر، مثالا، بموقف الرئيس من قضية الصحفية الشابة التي تعرّضت للاعتقال في السودان، وكيف تدخّل لدى القيادة السودانية، ونجح في إعادتها معه على طائرة الرئاسة إلى أرض الوطن وحضن أهلها.
كانت ثورة يناير كاشفة وفاضحة كل المواقف، وكل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية
يكفي الثورة فخراً أن الرئيس الذي انتخبته وضع على رأس برنامجه العمل لتحقيق الاكتفاء الذاتي لمصر من الغذاء والدواء والسلاح، وبدأ، فور توليه منصبَه، بالشروع في تطبيق نظام التأمين الصحي الشامل للمصريين، ووفر الدعم اللازم لاشتراك غير القادرين، وبدأ في تطوير المنظومة الصحية، وإدخال خدمة الإسعاف الطائر (لأول مرة) لإسعاف المواطنين الذين يتعرّضون لأزمات صحية، أو حوادث خطيرة في الطرق السريعة.
يكفي الثورة فخراً أنه لم يُسجن صحفي أو إعلامي واحد في عام حكم الثورة، بل لم يسجن سياسي واحد. وكان أول مرسوم بقانون أصدره الرئيس محمد مرسي في غياب مجلس النواب هو إلغاء حبس الصحفيين والإعلاميين. .. في عام الثورة، لم تصادَر صحيفة، ولم تغلَق قناة تليفزيونية، أو محطة إذاعية، أو صفحة إلكترونية، بل شهد الإعلام حرية لم يشهدها منذ نشأ في مصر.
.. باختصار شديد: كانت ثورة يناير كاشفة وفاضحة كل المواقف، وكل الأطراف المحلية والإقليمية والدولية. ومهما تكن ثورتنا ظالمةً لنفسها، ومظلومةً من غيرها، لا جدال في أنها صفحة مجيدة من صفحات العمل الوطني المصري، ولا ينبغي أن تكون الأخيرة أبدًا. .. فيا شركاء يناير، راجعوا مسيرتكم ومواقفكم، أنكروا مصالحكم الشخصية والفردية، وقدّموا مصلحة الوطن والأمة. عودوا إلى وحدتكم حتى تنجحوا في الوصول إلى غايتكم، فقوتكم ونجاحكم في وحدتكم، وضعفكم وفشلكم في تفرّقكم.
وصدق الله العظيم القائل: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".