في دوافع تركيا للوساطة ومكاسبها
منذ حشد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ما يزيد عن مائة ألف من قواته قرب أوكرانيا قبل أشهر، سارعت تركيا إلى تفعيل أدواتها الدبلوماسية في مسعى إلى التوسط بين موسكو وكييف لإنهاء الأزمة. وأجرى الرئيس أردوغان محادثات هاتفية شبه أسبوعية مع نظيريه الروسي بوتين، والأوكراني زيلينسكي. كما زار كييف في أوائل الشهر الماضي (فبراير شباط) في محاولة لترتيب قمة روسية أوكرانية برعاية تركية، لكنّ مساعيه لم تحظ باستجابة روسية حينها، حيث لم تكن موسكو مستعدّة بعد للدخول في عملية تفاوض قبل تقوية موقفها في الميدان. بعد أسبوعين من الغزو العسكري الروسي أوكرانيا، لبّى بوتين طلب أردوغان بعقد اجتماع ثلاثي لوزراء خارجية تركيا وأوكرانيا وروسيا في مدينة أنطاليا التركية. وجاء الاجتماع بمثابة أول خرق دبلوماسي في جدار الصراع، وشكل نقطة انطلاق قد تُفضي في نهاية المطاف إلى إطلاق مسار سياسي بين موسكو وكييف لإنهاء الحرب. قبل الاجتماع، لعبت أنقرة دوراً مهماً في عقد سلسلة محادثات بين روسيا وأوكرانيا على المستوى الفني في بيلاروسيا.
يُثير استمرار الحرب هواجس كثيرة لتركيا التي تسعى إلى تجنّب الانخراط فيها، بينما تتشابك مصالحها بشكل معقد مع طرفي الصراع. يتمثل الهاجس الرئيسي بالمخاوف من تمدّد الحرب إلى منطقة البحر الأسود، والذي دفع أنقرة، بعد أربعة أيام من اندلاعها، إلى تفعيل القيود التي تمنحها إياها معاهدة مونترو على حركة العبور عبر مضيقي البوسفور والدردنيل. على الرغم من أن المعاهدة كانت بمثابة صمّام أمان لتركيا والغرب في مواجهة التهديدات السوفيتية خلال حقبة الحرب الباردة، فإن تركيا استخدمتها الآن لضمان بقائها على الحياد بين روسيا والغرب. مع ذلك، فإنها تواجه، في الوقت الراهن، صعوباتٍ كبيرة في الحفاظ على نهج التوازن. بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكّك الاتحاد السوفيتي، شهد الوضع في منطقة البحر الأسود تحولات عديدة، أدّت إلى تغير موازين القوى في المنطقة، خصوصاً مع انضمام رومانيا وبلغاريا إلى حلف الناتو، وسياسات روسيا التوسعية التي برزت في المنطقة في أعقاب الحرب الروسية الجورجية في 2008، وضم شبه جزيرة القرم في 2014. أما الهاجس الآخر، فيتمثل بتداعيات الصراع على العلاقات الروسية التركية. ترتبط أنقرة وموسكو بعلاقاتٍ اقتصاديةٍ متعدّدةٍ الأوجه. كما لديهما تفاهمات في سورية وجنوب القوقاز وتحرص تركيا على استمرارها. تُضاف إلى ذلك التأثيرات السلبية للحرب على عملية التوازن الدقيقة التي تسعى أنقرة إلى الحفاظ عليها بين روسيا والغرب.
تأمل تركيا أن يُساعدها تعاملها مع الصراع الروسي الاوكراني في تكريس حيادها البنّاء الذي يضمن عدم جرّها إلى الصراع، ويُتيح لها البقاء فاعلاً رئيسياً في الأزمة
حتى الوقت الراهن، استطاعت أنقرة إدارة عملية التوازن بشكل مناسب من خلال إبراز نفسها وسيطا في الصراع، وتجنب الانخراط في الجهود الغربية لمعاقبة بوتين وعزله. لكن الأمر سيزداد صعوبةً عليها، إذا ما فشلت مساعيها الدبلوماسية وتطوّرت الحرب إلى صراع استنزاف طويل الأمد بين روسيا والغرب. تأمل تركيا أن يُساعدها تعاملها مع الصراع في تكريس حيادها البنّاء الذي يضمن عدم جرّها إلى الصراع، ويُتيح لها البقاء فاعلاً رئيسياً في الأزمة. ففي الوقت الذي تواصل فيه مدّ أوكرانيا بطائرات مسيرة وتعارض الغزو الروسي، تتمسّك بعلاقتها مع موسكو. وعلى صعيد علاقتها مع الغرب، تؤكّد التزامها بشراكتها مع حلف الناتو، لكن ليس على حساب مصالحها الوطنية التي تتباين مع الحلف، عندما يصل الأمر إلى مواجهة روسية أطلسية. مع ذلك، تصطدم قدرتها على الوساطة والتوازن بحقيقة أن الصراع الروسي الغربي لا يقتصر على أوكرانيا، بل يتعلق بأزمة نظام ما بعد الحرب الباردة. بالنظر إلى الوضع الجيوسياسي الحالي لتركيا، وعلاقاتها مع الغرب وروسيا، فإنها لا تجد نفسها بحاجة إلى الانحياز المباشر للغربيين واستعداء روسيا.
بقدر ما تساعد الوساطة التركية كلاً من روسيا والغرب على وضع مسار تفاوضي للخروج من المأزق الراهن الذي يؤثّر بشدّة على الطرفين، فإنّ تركيا تنظر إليها فرصة لتحسين وضعها في إدارة علاقاتها مع الروس والغربيين على حد سواء. علاوة عن أن موقف تركيا يجعلها الخيار المثالي، وربما الوحيد، الذي يُمكنه لعب دور إيجابي في الأزمة، فإن هذا الوضع يمنح أنقرة ميزة هامة لتحسين علاقتها مع الغرب بالدرجة الأولى. وقد استثمر أردوغان محادثته الهاتفية الأولى مع نظيره الأميركي، جو بايدن، بعد اندلاع الحرب، لمطالبته برفع العقوبات التي فرضتها واشنطن على الصناعات الدفاعية التركية، ردّاً على شرائها منظومة إس 400 الصاروخية الروسية. في غضون ذلك، ستستثمر أنقرة حاجة الغرب إليها من أجل ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة وأوروبا، للتخلي عن محاولات عزلها في قضية الطاقة بشرق المتوسط ودعم مشاريع التعاون المحتملة بين تركيا وإسرائيل لنقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا. من جانب آخر، تساعد حاجة روسيا إلى بقاء تركيا على الحياد أنقرة في تقوية موقفها التفاوضي مع موسكو بشأن قضايا أخرى في المستقبل كسورية.
ستُشكل الحرب على أوكرانيا دافعاً قوياً لمضي تركيا في توجهها إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي في السياسة الخارجية
في الفترات التي كانت فيها العلاقات الروسية الغربية مستقرّة نسبياً، كثيراً ما وجدت تركيا صعوبات في الموازنة بين الجانبين. وقد جعلتها عرضةً لتوتر علاقاتها معهما في بعض المراحل. ومن مفارقاتٍ تدعو إلى التوقف عندها في الموقف التركي من الصراع الروسي الغربي على أوكرانيا انتقاد أنقرة المتكرّر موقف الغرب، ووصفه بأنّه غير حاسم، ودليل على فشل النظام الدولي. يتقاطع هذا الانتقاد مع نظرة روسيا والصين اللتين تعتبران أنّ النظام الدولي القائم على التفوق الغربي لم يعد يصلح لإدارة العالم في هذه المرحلة. على الرغم من أن أردوغان ينتقد استجابة الغرب للصراع، إلّا أنّ هذه الاستجابة التي يراها ضعيفة تُريح أنقرة من عبء اتخاذ موقفٍ مناهض لروسيا. قد تكون تداعيات الحرب على تركيا مكلفةً على أكثر من جانب، لا سيما الاقتصادي، لكنّها ستُشكل دافعاً قوياً لها للمضي في توجهها إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي في السياسة الخارجية، وتبنّي هوية جديدة لها في عالم جديد يتشكل.