في دواعي اشتغال الإسلاميين بالدولة

04 مارس 2022
+ الخط -

لم يكن اهتمام الإسلاميين المعاصرين بالدولة فعلًا عابرًا، أو مشغلًا فرعيًا من مشاغل تفكيرهم في السياسة والعمران، فقد عدّوا البحث في هذا المجال من المجالات المعرفية الحيوية التي عليهم إبرازها في كتاباتهم، وتفصيل القول فيها لأتباعهم ولغير أتباعهم، حتى يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في مسألة عليها مدار انتظام شؤون الناس، وهي قوام مشروع الحكم. يأتي هذا التركيز على ضرورة الدولة الإسلامية، وأهمية التنظير لها ومأسستها فكرًا قبل إجرائها عملًا، ضمن سياقاتٍ إبيستيمية وتاريخية مخصوصة، ساهمت في توجيه الإسلاميين إلى توسيع النظر في الدولة ماهويًا وتجريديًا. ويمكن أن نُرجع هذا الاهتمام المتزايد من جانبهم بهذه المسألة إلى دواعٍ ذاتيةٍ وأخرى موضوعية.

من الناحية الذاتية، انطلق الإسلاميون المعاصرون في طَرْقهم موضوع الحكم عمومًا، وماهية الدولة ومتعلقاتها خصوصًا، من مصادرةٍ ندبوا أنفسهم للدفاع عنها، مؤدّاها التسليم بشمولية الإسلام وأبدية تعاليمه على مرّ الزمان وعلى اختلاف المكان، فهو "منهاج تامّ (...) كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة في الأمّة عملية وروحية" على حدّ تعبير حسن البنّا في رسائله، وهو "نظام جامع محكم أُسّس على مبادئ حكيمة متقنة"، في اعتقاد أبي الأعلى المودودي في كتابه "نظرية الإسلام السياسية." وفي ذلك تسليمٌ مبدئيٌّ بشمولية المرجعية الإسلامية قرآنًا وسنّة، وأنّها قادرة على الإجابة عن الأسئلة الحادثة، والإحاطة بالقضايا الخلافية كلها داخل الاجتماعين، العربي والإسلامي، وتوفير الأدوات المناسبة لمعالجتها بما في ذلك مشكلات مفهمة الدولة ولوازمها. وبناء عليه، فمسلّمة القول بشمولية الإسلام تدفع إلى تقديم طرح نظري تفصيلي لمسألة الدولة. كما أن رفع الإسلاميين شعار"الإسلام هو الحل" في برامجهم السياسية وحملاتهم الانتخابية ومصنّفاتهم النظرية كان تحدّيًا ذاتيًا، فرض عليهم ضمنيًا تجاوز الإجمال إلى التفصيل، والشعاراتية إلى التحليل، قصد الاستدلال على مدى صحة اعتبار الإسلام "سفينة النجاة"، وسبب الخلاص للعرب خصوصا، والإنسانية عموما، من جور الحكّام وغطرسة الاستبداد، فهذا الشعار فرض على حَمَلَته حتمية تفصيل القول في قدرة الإسلام على إدارة أمور العمران كافة، وقضية السلطة السياسية خصوصًا. أما السبب الذاتي التالي لاشتغال الإسلاميين بمسألة الدولة، فيتمثل في تعبيرهم صراحةً عن رغبتهم في الوصول إلى الحكم، وفي دخول المعترك السياسي في أكثر من بلد عربي وإسلامي في فترة الاستعمار وبعده، قصد التنافس على سيادة الدولة، وكسب معركة الصراع على إدارة مؤسساتها المدنية والعسكرية والاقتصادية، وهو ما أحوج الإسلاميين، منذ عهد التأسيس زمن حسن البنّا، إلى بلورة تصوّر ممكن لمسألة الدولة وآليات انتظامها من منظور إسلامي حركي. يُضاف إلى ذلك تسليم الإسلاميين بأن الدولة ضرورة وجودية، اجتماعية، دينية لا يستقيم حال الأمّة من دون وجودها، فهم يعتبرون إقامتها "واجبا دينيا وضرورة اجتماعية إنسانية لا بديل منها في توفير بقاء الجماعة"، حسب راشد الغنوشي في مصنّفه "الحرّيات العامة في الدولة الإسلامية". ومن ثمّة، التنظير في الدولة عندهم هو تمهيد لتمثّل كينونتها، وبحثٌ عن آليات مأسستها وأسباب استمرارها باعتبارها قوّامة على الدين، ضامنةً لإنفاذ الشريعة، محقّقة لحفظ البيضة، واتصال الجماعة، وسيرورة الدعوة في الناس.

يتبين الناظر في هذه الأسباب الذاتية للانشغال بالدولة، في غير عناء معالم مقاربة بعدية للإسلام/ النص والإسلام/ التاريخ، تقوم على وعي حادّ بضرورة استئناف الفقه السياسي التقليدي من ناحية، وتأسيس ذلك على شرعية دينية من ناحية أخرى وذلك بتأكيد مسلّمة إطلاقية الإسلام وشموليته وقيامه على تلبّس الدين بالدولة. وهذا النهج، على أهميته في إرساخ المشغل السياسي في تربة إسلامية، فإنه محكوم إلى حد كبير بنزعة انطباعية حماسية، انبنت على محاولة تحصين الذات من اعتماد بدائل حكم خارج المرجعية الإسلامية. واقتضى ذلك، في أكثر من موضع، استدعاء تجربة الني محمد حرفيّا في غير مبالاةٍ بتاريخيتها، واستحضار النصّ القرآني مع مجافاة زمنيةِ بعض آياته، وما تعلّق بها من أسباب نزول، ومحاولة إسقاط محاملها على الواقع المعيش رغم مستجدّاته المختلفة وتعقيداتة الكثيرة.

واجه الإسلاميون المعاصرون حالة فراغ مصطلحي ومفهومي في المدوّنة النظرية التراثية، في خصوص مفهمة الدولة

ووجّهت معطيات موضوعية عدة تصوّر الإسلاميين المعاصرين للدولة، فساهمت في تحفيزهم على النظر في هذا الموضوع، لعل أهمها محدودية الأثر المرجعي التفكري في الدولة عند السلف، فقد واجه الإسلاميون المعاصرون حالة فراغ مصطلحي ومفهومي في المدوّنة النظرية التراثية، في خصوص مفهمة الدولة، وتحديد مكوّناتها وآليات اشتغالها ووظائف مؤسّساتها وأدوات تسييرها، وطرائق تفاعلها مع حقوق الناس وواجباتهم، وكيفيات حكمهم. ونكاد نعدم عند القدامى تحديد عدد من المصطلحات الجوهرية في الفكر السياسي الحديث، مثل الحرية والعدالة والمواطنة وحيادية السلطة .. فكانت الحاجة أكيدة إلى استئناف النظر في الفقه السياسي الإسلامي، وإعادة الاعتبار إلى الدولة بصفتها الجهاز الضامن لاستمرار الجماعة المسلمة على كيفٍ مَا. وواكب ذلك ظهور توجّه فكري يعضُده قرار سياسي رسمي في داخل الاجتماع الإسلامي، اعتمد مقولة فصل الدين عن الدولة، واعتبار السياسة شأنًا دنيويًا اجتماعيًا لا ركنًا من أركان الدين الإسلامي، وتجلّى ذلك مع علي عبد الرّازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وفيه تحدّى الرجل المؤسسة الأزهرية، ودعا إلى مراجعة مسلّمات جاهزة ركّبها الفقهاء على النص التأسيسي، قرآنًا وسنّة، بصفة بعدية، وفي مقدمتها القول إن الخلافة من أصول الدين ومن ضرورات اجتماع المسلمين، ففي رأيه أنّ "الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة". مضيفًا "ليس القرآن وحده هو الذي أهمل تلك الخلافة ولم يتصدّ لها، بل السنّة كالقرآن أيضًا تركتها ولم تتعرّض لها".

وتطوّر هذا التوجّه لاحقًا مع العلمانيين العرب، ومع حكّامٍ ما يُعرف بالدولة الوطنية بعد الاستقلال، ودفع ذلك الإسلاميين إلى التنظير للبرهنة على أن الإسلام دين ودولة، وتنادوا بضرورة إقامة الحكم الإسلامي بديلًا من الحكم الوضعي. يُضاف إلى ذلك سقوط دولة الخلافة عام 1924على يد كمال أتاتورك، وما خلّفه في نفوس قطاع مهم من المسلمين من إحساسٍ بالفراغ الأنطولوجي، في أبعاده المختلفة، السياسية والتشريعية والدينية والدستورية، فقد تفكّك وجود الدولة الراعية التي تشرف على تنظيم أحوال الرعية، وتحرُس دينهم، وتُفتي لهم، وتنظّم شؤون دنياهم وفق ما تقتضيه الشريعة. وهو ما أحوج إلى إعادة التشريع للدولة الإسلامية الحاضنة التي تستعيد الخلافة، ولو بأسماء جديدة، وتؤصّل الحكم في الإسلام، وتتفتح على منتوجات الفكر السياسي الحديث شوقًا إلى إقامة نظام حكم إسلامي تنشدّ إليه جموع المسلمين في العالم، واقتضى ذلك إعادة الترتيب النظري لماهوية الدولة في الإسلام. كما وقف الإسلاميون على تردي أحوال المسلمين وتشتتهم في عصر الاستعمار وبعده، ومعاناة الإنسانية وفسّروا ذلك بالحياد عن تحكيم الإسلام في شؤون الناس، فانصرفوا إلى إعادة هيكلة التفكير الإسلامي التقليدي في السياسة فقد "اكتوت [البشرية] بنيران المطامع والمادّة وهي في أشدّ الحاجة إلى (...) الإسلام الحنيف يغسل عنها أوضار الشقاء، ويأخذ بها إلى السعادة"، بحسب حسن البنّا، و"الدولة الإسلامية ليست سوى أداة من أدوات (...) خدمة رسالة الإسلام وعدله تحق الحق وتبطل الباطل في الأرض" عند راشد الغنوشي في كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام".

مسلّمة القول بشمولية الإسلام تدفع إلى تقديم طرح نظري تفصيلي لمسألة الدولة

وعلى صعيد آخر، ساهم إخفاق الدولة الوطنية في تحويل شوق المواطنين إلى الحرية والكرامة والعدالة والتنمية المستدامة إلى واقع معيش، وانتقالها من دولة تحريرٍ إلى دولة مستبدّة في عدد من الأقطار، في حرص الإسلاميين على تقديم أنفسهم بديلًا من الراهن السياسي المغلق في البلاد العربية، داعين إلى إقامة دولة العدل بديلًا من جولة الجور، مستندين في ذلك إلى مرجعية إسلامية وإلى مهادٍ نظريٍّ جعل تحديد ماهية الدولة غايةً من غاياته في أكثر من موضع. كما أنّ صعود تيّار العلمنة القسرية وموجات استنبات الثقافة الغربية بديلًا من الهوية العربية الإسلامية في داخل الاجتماع العربي برعاية الدولة الوطنية، ووسائلها الإعلامية والتعليمية، وأدواتها التعبوية والزجرية، دفع الإسلاميين إلى النهوض بدور المعارض العنيد لسياسة النخب الحاكمة، وإلى تحسيس الناس بخطورة "تغريب المجتمع" وحتمية الالتفاف حول بديل سياسي إسلامي له فهمه المخصوص للدولة. وفي ذلك يقول البنّا: "نريد أن نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا، وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي".

بناء على ما تقدّم، تضافرت العوامل الوجدانية (التعلّق بالإسلام والذود عنه) والحافز الأيديولوجي (مواجهة العلمانية) والعوامل السياسية (مأزق الدولة الوطنية والتنافس على السلطة) والوجودية (البحث عن سبل استمرار الإسلام والجماعة المسلمة في المشهد التاريخي والعمراني) والدافع السياسي (استتباع أكبر عدد ممكن من الأنصار) في انشغال الإسلاميين بالدولة وإقبالهم على استئناف التصنيف في شعب السياسة عمومًا، ومشغل الدولة خصوصًا.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.