في تكفير القراءة والحطّ من الفلاسفة
"الطفل الذي يقرأ لا يفكّر، فهو يقرأ وحسب، إنه لا يتعلم حقاً، بل هو يحفظُ ألفاظاً (...). يجب أن يكون وصولنا إلى الأشياء المعقولة، عن طريق الأشياء المحسوسة، مرشداً للفكر ودليله في عملياته الأولى، ولا ينبغي أن يكون للفتى كتابٌ غير كتاب الدنيا، ولا تعليم إلا ما ترشده إليه الوقائع والحوادث". جان جاك روسّو.
يندفع روسّو بقوة في إعلان نظريته، حين ينتقل عمر طفله (إميل) إلى مرحلة الفتوّة قبل البلوغ، ما بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، وهو الآن يدخل إلى العلم التجريبي، وكيف يتحوّل لدى الطفل هذا العلم إلى علم دلالي للمعرفة، لا علماً مآلياً نهائياً للإنسان، وهي قضية حسّاسة جداً، فهو هنا يقارب مذاهب الفلاسفة الأخلاقيين في إعادة ردّ الاعتبار للعلم، من ضيق التجريب إلى أفق المعرفة الأشمل، لمدلولات الحواسّ في عالم الكون وفي ذات الإنسان.
ويُصعق من لا يعرف روسّو ويُدرك خطّه الثائر في العلوم، بتوبيخه الشديد ورفضه الشرس، لمساحة تشجيع القراءة في عالم الطفل، فهو يدعو إلى قراءة الطفل المحيط الكوني ودلائله، ويُصرّ على مبدأ التعلّم بالتأمل والإدراك، وأن يُترك ليأخذ مساحته الزمنية، حتى يتشبّع بدلائل تلك الحواسّ وتأملاتها. يثير روسو هنا نقطة مهمة في رفع سلطان التعليم عن عقل الطفل فيقول: "إنك إن أحللت يوماً عقلك مكان تفكير (الطفل) فلن يفكّر ولن يعقل، ولن يصبح إلا ألعوبة بين يدي الناس".
ويستطرد روسّو في أدواته الطبيعية، ويُركز على الجغرافيا مدخلاً لشرح نظريته، فيسخر من كرة الأرض المصغّرة والخرائط وغيرها، ويطرح، في المقابل، خروج الطفل إلى الفلك وتأملاته فيه، في شروق الشمس وغروبها، ثم في مواقع النجوم وأحوالها، ويقول: أليس هذا هو الشيء الأصلي الذي تُريد أن توصله إليه، عالم السماء وجغرافيا الأرض؟
يَحتَجُ روسّو بأن حياة الطفل ستدخُل إلى مرحلة التجاذب العاطفي القوي، وهي مرحلة البلوغ
وهكذا يجري عنده مقام الزرع وسقياه، وخروج الطيور صباحاً وحلول الظلام، بل إنه يرفض أن يبني المعلم على هذه الدلائل، فيوسّع دائرة العرض على الطفل، قبل أن يتفكّر الطفل ذاته. ولذلك يهاجم هنا دلائل الفلاسفة المنطقية، المغرقة في النظرية البعيدة عن فقه الكون ودلائل طبيعته، ويستبدل ذلك بإثارة السؤال الآخر لكلّ مرحلة، بين يدي الطفل، حتى يتبيّن معرفة الأشياء والأفلاك من حوله، فيُدرج المحسوسات من حوله، ليصل إلى ما ورائها.
وفي حين لا يُجيب روسّو عن أدواته في نقل علم الطفل في العلوم، وكأنه ينسحب منه بعد أن يُشكّك في نظريات التحليل في العلوم، فهو يعود إلى الجغرافيا، ليقترح أن يعمل الطفل بعد تجوّله بين الأفلاك في أوقات المواسم، خريطة بسيطة، ليضع تصوّراً للإقليم، ويؤكّد أن خطأ الطفل لا يهم، المهم دفعه إلى روح الاستنباط، فهدف التعليم لدى روسّو ليس الإكثار من المعلومات، ولا تعبئته بالحقائق، إلا بالقدر الذي ينجو فيه من الأخطاء.
يَحتَجُ روسّو بأن حياة الطفل ستدخُل إلى مرحلة التجاذب العاطفي القوي، وهي مرحلة البلوغ، ومن الغباء أن نعلمه العلوم التي لا قعرَ لها، ولكنه الذوق الذي يقود إلى حبّها، وأن يتعلمها بنفسه، وأن تزرع فيه هذه الروح بالسرور والمحبّة لا الإرغام. وهنا يقول إن سلسلة الفلاسفة في نقل الحقائق الكلية لا تعنينا، فهي تخالف فكرته في تلقّي العلوم للطفل. فيما يعود على التجارب في فهم المعادن والجاذبية، وكيف أنها تثير لديه بعد دلكها، جذب بُرادَة الحديد على سبيل المثال، فما هو المركز المفقود هنا في نظرية روسّو؟ لاحظ هنا دوران روسّو وبحثه المشدّد عن تفعيل العلم التجريبي، لينتقل إلى رؤية المعرفة الأكبر، عبر ماذا؟
البعثان، العقلي والروحي معاً، ينهجان نحو الأصل الأهم في معرفة الوجود، ثم تنظيم دلائل العقل فيه
عبر هذا الكون ودلائله في الفلك وغيره، وفي متابعة روسّو إرشاد إميل، إلى هذا الكون تبرز لديك قصة النبي إبراهيم مع المدلولات ذاتها، وكيف تصل به إلى السر الأكبر للمعرفة، وهو الخلق والخالق، وهي سردية في كتاب الله من سطّر آياتها هو الله الموجد، راجع مثل روسّو مع إميل ثم تأمل هذه الآيات: "فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُون" [الأنعام: 77-78]. هذا النص القرآني مطابق تماماً لما كان يصبو إليه روسّو، في تحريك الحواسّ، نحو دلائل المعرفة اليقينية الكبرى، غير أن البعثين، العقلي والروحي معاً، ينهجان نحو الأصل الأهم في معرفة الوجود، ثم تنظيم دلائل العقل فيه، وروسّو، وخصوصاً حين يحطّ من الفلاسفة في أكثر من موضع، وإن عاد واستلهم بعض رؤيتهم في العقد الاجتماعي، الذي اعتقد أن روسّو أراد إميل مقدّمة له، فهو يسخر من ركام الدوران الفلسفي، الذي سمّاه في موضع آخر بالفلسفة الطفولية، التي لا تريد أن تصل إلى الرشد. كونها تنحت في السطح ذاته، وتغوص في جدله وهامشه من دون اختراق معرفي، غير أن الموقف الحاسم في القرآن وفي الفلسفة الإسلامية، وعلى الضد من روسّو، يشحذ الهمم إلى القراءة، بل يجعل العلم محطّة الإيمان، "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ"، ثم يَنزلُ القرآن في أول بلاغه بكلمة يجعلها مبدأ الخطاب المقدس، (اقرأ) فالقراءة مبعث العلم والمعرفة.
لكن، ماذا عن تحفّظ روسّو في إشغال الطفل بشحن حافظته، من دون تنظيم دلائل الاستنباط؟ هذا استدراك صحيحٌ، لكنه في الفلسفة الإسلامية يُنظّم، من دون التزهيد في القراءة أو الزعم أنّ القراءة المبكّرة لن تنتج وعياً مميّزاً للفتى، خصوصاً حين يُقبل هو على القراءة بذاته، فالإرشاد هنا إلى مساحة تنظيمه قراءاته ومواضيعها، وليس لتكفير القراءة في ذاتها.