في تقاطع الأكاديميا الإسرائيلية والمشروع الصهيوني
تعيد خطوة الجامعة العبرية في القدس تعليق عمل المحاضرة الفلسطينية، البروفيسور نادرة شلهوب - كيفوركيان، بسبب احتجاجها على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزّة، إلى الأذهان مسألتين أساسيتين: الأولى، كيف تعمل أذرع أخرى للسلطة الإسرائيلية، بموازاة الحرب، على قمع أي مظاهر ناقدة من المجتمع المدني في إسرائيل، وعلى تكميم أفواه المثقفين والجمهور المعارض للحرب، ولسياسات إسرائيل بشكلٍ عام، خصوصاً في ما يتعلق بفلسطينيي 1948. والثانية، الدور الحقيقي لهذه الجامعة الأقدم، والمؤسّسة الأكاديمية الإسرائيلية عموماً، في توفير الغطاء المعرفي والقانوني للاحتلال في الوقت الحالي ولجرائم القتل والتطهير العرقي والتدمير التي مارستها الصهيونية لدى استعمارها فلسطين، وهو غطاءٌ يشكّل معيناً لمحاولات إسرائيل مواجهة حملات الاستنكار الدولية.
وإذا ما تطرّقنا إلى المسألة الثانية، أول ما ينبغي الإشارة إليه تقاطع الأكاديميا مع المشروع الصهيوني منذ إنشاء الجامعة العبرية بالقدس ومعهدي التخنيون وزيف (معهد وايزمان لاحقاً) في عشرينيات القرن الفائت. وجرى تسخير هذه الأكاديميا لخدمة المشروع الصهيوني في فلسطين قبل النكبة وبعدها، وعمل باحثوها على تزويد المشروع الصهيوني بالنظريات والآليات العلمية لتثبيت المشروع الصهيوني في فلسطين وضمان هيمنته.
وسبق للمفكر العربي عزمي بشارة أن توقف، في أبحاث ومقالات ومحاضرات له عند هذا التقاطع. كما تم تسليط الضوء عليه في كتب أخرى لاحقة، منها كتاب إيلان بابيه "فكرة إسرائيل- تاريخ السلطة والمعرفة" (2017)، وكتاب مهنّد مصطفى "المؤسّسة الأكاديمية الإسرائيلية: المعرفة، السياسة والاقتصاد" (2014) وغيرهما. وفي عودةٍ إلى هذه الأبحاث نصادف جبلاً من القرائن على ما تصفه بأنه تحكّم السلطة بالمعرفة في كينونة إسرائيل، ولا سيما في الفترة التي تولت فيها سدّة الحكم حكومات اليمين الجديد برئاسة بنيامين نتنياهو، وأساسٌ لترسيخ "فكرة إسرائيل" ضمن قالبٍ مُسبق البرمجة والأدلجة، بحيث تقف في جوهرها بصورة مطلقة "قصّة الخلاص والبطولة وعدالة التاريخ"، وأن هذه الفكرة هي "التمظهر الحتميّ الناجع لتاريخ الأفكار الأوروبي" وذلك في مقابل الفكرة المُضادّة القائلة إنها تمثّل كل ما هو متعلّق بالاضطهاد والتهجير والكولونيالية والتطهير العرقي.
وفي حين تعتمد دولة الاحتلال، كما كان شأنها دائماً، على الجيش والموارد الاقتصادية والقوة السياسية، تظلّ الفكرة بحاجة إلى تدعيم معرفي توفره الأكاديميا، على ما يؤكّد بابيه، والذي يضيف أنّ ترويج شرعية الفكرة السالفة، خصوصاً على المستوى الدولي، لا يكفيه الاعتماد على قوة المال أو اللجوء إلى الابتزاز الأخلاقي، إذ يلزم أيضاً إثبات عدالة الفكرة وصحتها. وهذا ما تتطلّع إسرائيل إليه، وما تعكف عليه رسميّاً من خلال الاعتماد على نخبة مفكّريها وأكاديمييها، بهدف إضفاء الشرعية على الدولة، بالرغم من ظروف إنشائها غير الطبيعية.
وتتراكم أكثر فأكثر القرائن على شراكة المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية مع المؤسسة العسكرية. وهي شراكةٌ ترمي إلى إيصال رسالة فحواها أن دور الأكاديميين ينبغي أن يتمثّل في شرعنة مؤسّسات الحكم وأجهزته، لا في تحدّيها وانتقادها. ومن هذه القرائن مثلاً: أُقيم في جامعة تل أبيب قبل أعوام قليلة مركز سايبر، الذي يُعنى بشؤون استخراج المعلومات والمعطيات والحماية والترميز، كموضوعات أكاديمية في الظاهر. وانضم هذا المركز إلى معهد أبحاث الأمن القومي (INSS) الذي يعمل منذ سنوات عديدة جسماً أو هيئة أكاديمية في نطاق الجامعة نفسها. والحديث هنا بشأن منصّة يستخدمها جنرالاتٌ متقاعدون لكتابة أوراقٍ تعكس، وتصوغ في الوقت ذاته، سياسة الأمن الإسرائيلية. ومن يطالعها لن يجد فيها مقالات علمية عادية، وإنما هي أوراق مواقف محدّدة بطيفٍ مقلص جدّاً يعتبر مقبولاً وجائزاً لدى رجالات المؤسسة الأمنية. وفي جامعة حيفا، يعمل جسم شبيه تحت اسم "المركز الاستراتيجي البحري". وتعرض سائر الجامعات وتُقدّم لأفراد ورجالات المؤسّسة والأجهزة الأمنية المختلفة مِنَحاً دراسية كاملة، وبرامج تعليمية مكثفة وموجهة بعناية لأغراض الجيش، ناهيك عن وجود علاقات وثيقة وتعاون متبادل بين أقسام الهندسة والحاسوب في الجامعات الإسرائيلية وبين الصناعات العسكرية.