في تذكّر متاريس بيروت
لم يكن الفدائيون الفلسطينيون، ومعهم مقاومون لبنانيون باسلون، صيف العام 1982، خلف المتاريس في بيروت، يقاتلون الغزاة الإسرائيليين فقط، وإنما كانوا "مع الحرب الوطنية بكل أبعادها ضد الصهيونيين العرب، والصهيونية العربية القديمة والجديدة". هذا ما كتبه معين بسيسو في واحدةٍ من مقالاته في جريدة "المعركة" في غضون المواجهة الفلسطينية اللبنانية العظيمة ضد الفاشية الإسرائيلية، في أزيد من ثمانين يوما كانت لها فرادتُها الباهرة في مسار كفاح الشعب الفلسطيني، مشمولا بإسناد حركة نضالٍ عربيةٍ، مجيدة حقا. .. يُؤتى هنا على صهيونيين عرب كانوا في تلك الأثناء، ليس فقط بمناسبة اكتمال 38 عاما هذا الأسبوع على تلك الأيام، وإنما أيضا لأن صهيونيين عربا جددا طرأوا بين ظهرانينا، أخيرا، أحدس أن "مارد السنابل والالتزام والشعر"، معين بسيسو بحسب وصف سميح القاسم، لم يتسرّب إلى خاطره أنهم سيستجدّون، في قيعانٍ عربيةٍ ماثلة. ولا أظن أن مقادير السخط الباهظة لدى صاحب "الأشجار تموت واقفةً" على الحالة العربية في ذلك الصيف البيروتي كانت ستكفيه، لو أطال الله عمره ورأى ما نرى.
للنوستالجيات بعضُ النفع في لحظات القرف الحادّة كالتي تغشانا في هذه الغضون، لاستدعاء بعض التوازن النفسي، وربما ظنّا منا أنها تبثّ حرارةً قد تُسعف الروح ببلسمٍ ما. والحرارة باهظةٌ في كتاب معين بسيسو "88 يوما خلف متاريس بيروت" (دار الفارابي، بيروت، 2014، ط2. دار ابن رشد، بيروت، 1985، ط1)، والذي تجتمع بين دفّتيه نصوص وخواطر للشاعر الفلسطيني المعروف، كتبها ونشرها لمّا كانت قذائف العدو الإسرائيلي تقصف في بيروت، وكانت المتاريس في المدينة الصامدة تحمي المقاتلين. المدينة التي يحيّيها معين "../ ../ صباح الخير يا بيروت الوطنية/ صباح الخير أيتها المدينة المغسولة بماء البرق والرعد/ صباح الخير يا عاصمة الينابيع الجارية من جراحك".
قد يغشاك، وأنت تقرأ الكتاب القليل الصفحات، اشتياقٌ إلى اللغة التي انكتب بها، وقد غادرْتنا منذ زمن، لا لأنها مكابرةٌ فحسب، أو لأن منسوب التعبوية والروح القتالية الضافية فيها عالٍ، وإنما أيضا لأن ركاكة اللحظة العربية، ومنها الفلسطينية، خلّت بيننا وبين تلك اللغة التي أقام عليها معين بسيسو، منذ مجموعته الشعرية الأولى "المعركة" في 1952، وحتى وفاته في فندق في لندن في 1984. وأيا كان أمرُ هذه اللغة، أو أمرُنا معها، هذا تفصيلٌ، فلهذه النصوص قيمتها في حماية معركة حصار بيروت باقيةً في الوجدان العام للأمة، وفي المدوّنة الفلسطينية، وكذا اللبنانية، واللتين تحضر فيهما يومياتٌ وشهاداتٌ وسردياتٌ رائقةٌ لغير كاتبٍ وأديب، محمود درويش ورشاد أبو شاور وبلال الحسن وفواز طرابلسي وأمجد ناصر وغيرهم، بعضُها في أتون اللحظة وأخرى بعدها. وقد كان معين بسيسو مزهوّا، وهو هناك، ويكتب "صمودنا وراء المتاريس قد جعل البشرية التقدّمية جمعاء تقف خلف هذه المتاريس".
قال درويش مرّة إن معين كان "يكذّب الواقع لتبقى القصيدة على صواب". وهذا ظاهرٌ في الكتاب الذي يأتي على "حكاية" القصيدة المشتركة التي كتبها إثناهما "رسالة إلى جندي إسرائيلي"، في أثناء الحرب، واعتبرها ياسر عرفات قصيدة القوات المشتركة، وأحرقت زوجة معين نسختها بخطي صاحبيْها، بعد ضربها على الآلة الكاتبة، وكل منهما كتب مقاطعَه فيها، "لكي لا يقول أحدٌ هذا هو محمود وهذا هو معين". وفي البال أن صاحب "أدب القفز بالمظلات" كتب قصيدتَه "لن تدخلوا بيروت" في اليوم الثاني عشر للمعارك، ومنها "../ لن تدخلوا بيروت/ كل كيس رمل/ كل صخرة/ كل موجة/ في بحرها تابوت/ لن تدخلوا بيروت".
كان الرصاص "سوفياتيا"، وكان ياسر عرفات "خبزا وبارودا"، وكانت "الجغرافيا التي يعرفها الأطفال اللبنانيون والفلسطينيون هي التي يرونها متاريس من الرمال في شوارع بيروت"، و"من متاريس بيروت، كانت تولد فلسطين جديدة، ولبنان جديد، وخريطة عربية جديدة". بهذه اللغة انكتبت يوميات معين بسيسو تلك. وقد سـأل في إحداها: "ما الذي يمكن أن يُكتب عن الصهيونية العربية التي تأكّد خلال مجرى كل تلك الأيام والليالي الدموية الرهيبة – التي كان يرشح نهارها وليلها بالدم الفلسطيني اللبناني – ولا يزال – أن حقدها الصهيوني العربي على الثورة الفلسطينية، وعلى لبنان الوطني العربي المقاتل – هو مصدر الإلهام للحقد الصهيوني والأميركي..". بقليلٍ من التصرّف، يصلح كثيرٌ في هذه العبارة عن أحوالٍ عربية راهنة.