في تحوّلات المشهد العراقي
لن يكون المشهد السياسي العراقي بعد استقالة نواب التيار الصدري من البرلمان كما قبله، فاستقالة 73 نائباً من التيار الصدري في ضوء توجيه زعيم التيار مقتدى الصدر، تعدّ تحولاً مهماً في مسارات الحراك السياسي القائم في الساحة العراقية طوال الشهور الثمانية المنصرمة، فهذا القرار، وفي هذا الوقت بالذات، ستكون له انعكاسات وتردّدات كثيرة على المعادلة السياسية العراقية، وعلى الأصعدة كافة، سيّما أنه سيضع الجميع أمام خيارات صعبة، فتركيبة البرلمان سوف تتغير لجهة صعود 73 نائباً جديداً عوضاً عن نواب التيار الصدري سيكون عدد كبير منهم محسوبا على "قوى الإطار التنسيقي" خصوم الصدر، كما أنّ التوازنات البرلمانية سوف تتغيّر لجهة تشكيل تحالفات واصطفافات جديدة بديلة للتحالفات التي كانت قائمة قبل استقالة نواب التيار الصدري.
وعلى الرغم من تباين آراء المحلّلين إزاء تلك الخطوة وتداعياتها على العملية السياسية، وفيما إذا كانت ستصبّ في صالح استقرار الوضع السياسي، أم أنها ستعمّق الأزمات التي يعيشها العراق، يمكن الحديث عن جانبين رئيسين سيكونان الأكثر حضوراً في تحولات المشهد السياسي العراقي بعد استقالة نواب التيار الصدري. يتعلق الأول بمصير البرلمان، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل سيتمكّن البرلمان بتشكيلته الجديدة بعد استقالة نواب التيار الصدري من تخطّي مرحلة الانسداد السياسي. وبالتالي، التئام جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بالنصاب الدستوري المطلوب، ومن بعدها تحديد الكتلة البرلمانية الأكبر الموكلة بتسمية رئيس الوزراء؟
التوازنات البرلمانية ستتغيّر لجهة تشكيل تحالفات واصطفافات جديدة بديلة للتحالفات التي كانت قائمة قبل استقالة نواب التيار الصدري
يفتح هذا السؤال الباب موارباً لتكهنات كثيرة، والتي أهمها أنّ البرلمان قد لا يتمكّن من عقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لسببين: الأول عدم تحقيق النصاب الدستوري المحدّد لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا الأمر قد يتحقّق في حال قرّر نواب "تحالف السيادة" والحزب الديمقراطي الكردستاني (عددهم 98 نائباً) ونواب حركتي "الجيل الجديد" و"امتداد" المدنيتين اللتين أيدتا فكرة حل البرلمان، وعددهم 18 نائباً، ونواب مستقلون من المؤيدين لموقف الصدر البالغ عددهم 11 نائباً، الامتناع عن حضور جلسة انتخاب الرئيس، وبالتالي، عدم تحقيق النصاب الدستوري نتيجة تغيّب أكثر من ثلث عدد أعضاء البرلمان من حضور الجلسة.
السبب الثاني تقديم مجموعة من الكتل البرلمانية المتعاطفة والمتحالفة مع الكتلة الصدرية استقالتها من البرلمان مقدّمة لحل البرلمان العراقي والذهاب نحو انتخابات برلمانية مبكّرة جديدة. وفي هذا الإطار، تتحدّث أطراف عراقية أنّ بعض الكتل البرلمانية، كحليفي التيار الصدري في تحالف "إنقاذ وطن"، نواب "تحالف السيادة" ونواب الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذين أصبحت خياراتهما محدودة بعد استقالة نواب التيار الصدري، وكذلك كتلتي "الجيل الجديد" و"امتداد" اللتين سبق أن طرحتا هذا الموضوع قد تحذو حذو الكتلة الصدرية وتقدّم استقالتها من البرلمان، الأمر الذي يعني الذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة جديدة بعد حل البرلمان.
يتعلق الجانب الثاني بتحدّي تشكيل الحكومة الجديدة، وهو تحدّ كبير سيواجه قوى "الإطار التنسيقي" في حال تمكّنها من تمرير جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، والتحدّي هنا ثلاثي الأبعاد: يتعلق الأول بالتوافق على الشخصية التي ستتولّى منصب رئيس الحكومة، ويتعلق الثاني بشكل الحكومة، أما الثالث فيتعلق بشكل التوازنات الجديدة التي ستقوم عليها العملية السياسية ككل بعد اختلال التحالفات القديمة.
العراق مقبل على توازنات جديدة ستقوم عليها العملية السياسية، محورها الأساسي الصدر
تضع هذه الأبعاد الثلاثة قوى "الإطار التنسيقي" أمام أربعة خيارات أحلاها مر، فإما الذهاب نحو تشكيل الحكومة بمعزل عن التيار الصدري، وبالتالي تحمّل قوى الإطار التنسيقي المسؤولية كاملةً أمام الشارع العراقي بما فيه أنصار التيار الصدري. ويثير هذا الموضوع انقساما داخل قوى "الإطار التنسيقي" بين فريقين متناقضين، أو تقديم تنازلات للصدر والقبول بخيار الأغلبية الوطنية التي كان يطالب بها طوال فترة الثمانية أشهر المنصرمة، أو الطعن بقرار استقالة نواب الكتلة الصدرية أمام المحكمة الاتحادية من أجل إبقاء الأوضاع مشلولة سياسياً، أو الذهاب نحو حلّ البرلمان العراقي، ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية مبكّرة جديدة.
في حصيلة ما سبق، من المتوقع أن لا يكون قرار نواب التيار الصدري بالاستقالة الفصل الأخير في سيناريو تشكيل الحكومة، فهذا القرار لن يكون بالضرورة بداية لنهاية الانسداد السياسي في البلاد، إذ إن مآلات المشهد السياسي في العراق ستبقى مفتوحة ومتعدّدة ومعقّدة، فخطوة التيار الصدري، الانسحاب من العملية السياسية ككل، وإغلاق أغلب المؤسسات والمكاتب التابعة للتيار، توحي بأنّ العراق مقبل على توازنات جديدة ستقوم عليها العملية السياسية، محورها الأساسي الصدر، وليس قوى "الإطار التنسيقي"، فزعيم التيار الصدري، من خلال توجيه نواب تياره إلى الاستقالة، يبدو أنه يخطّط للقادم، الأمر الذي يوحي أنّ المشهد السياسي العراقي سيكون مفتوحاً أمام سيناريوهات كبيرة، ولو أنّ هذا المشهد الجديد يحتاج وقتاً قبل أن يتبلور بصورته الكليّة.