في تحوّلات القوة

17 مارس 2022
+ الخط -

يجسّد مفهوم القوة في العلاقات الدولية، والتي تُعرّف بأنّها القدرة على التأثير في سلوك الآخرين للحصول على النتائج المتوخاة، أحد المحدّدات الرئيسية لفهم سلوك الدول. وإذا كان مفهوم "القوة الخشنة" أو "القوة الصلبة" في العلاقات الدولية يرتبط بالإكراه، ويعبّر، بشكل كبير، عن وظيفة القوة العسكرية أو الاقتصادية للدولة، فإنّ مفهوم "القوة الناعمة" في العلاقات الدولية يرتبط تقليدياً بقدرة الدولة على التأثير على الجهات الفاعلة الدولية الأخرى من خلال جذب ثقافتها وقيمها. أما في السنوات الخمس الأخيرة، فقد بدأ عالمنا يشهد تحوّلاً أساسياً أوسع في طبيعة القوة، ضمن ما باتت تعرف بـ "القوة الحادّة"، وهو وصف أطلقه كلٌّ من كريستوفر والكر وجيسيكا لودفيغ من المؤسسة الوطنية الأميركية للديمقراطية، في مقال لهما نشر عام 2017 في مجلة "Foreign Affairs" تحت عنوان "القوة الحادّة: كيف تمارس الدول السلطوية التأثير"، أشارا فيه إلى ارتباط هذه القوة، بشكل أساسي، بالدول السلطوية التي تريد أن تمارس التأثير العالمي بالأساليب نفسها التي تستخدمها في الداخل.

حسب باحثين عديدين مختصين بالعلاقات الدولية، فإنّ "القوة الحادة" شبيهة بـ"القوة الناعمة" من خلال استعمال القيم والسياسات والثقافة للتأثير الخارجي، لكنّ غاية هذا التأثير هو استهداف النماذج الديمقراطية واختراق منظومتها القيميّة، بما يهدّد وجودها في المستقبل، في حين يراها آخرون قريبة من "القوة الصلبة" في شكلها الحادّ من خلال توظيف آليات معينة لتحقيق أهداف منشودة ونتائج متوّقعة، من قبيل محاصرة الديمقراطيات وضربها من الداخل، حيث تنطبق أيضاً على الديكتاتوريات العسكرية وأنظمة الحزب الواحد المقاومة للتغيير الداخلي، فتتجه إلى تصدير نماذجها إلى الخارج عبر التأثير بآليات صلبة وناعمة، في حين أنّ أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، وصاحب مصطلح "القوة الناعمة"، جوزيف ناي، يرى أنّ "القوة الحادّة" هي أحد أشكال "القوة الصلبة" التي تقوم على الاستخدام الخادع للمعلومات، لأهداف عدائية، ويرى فيها الطرف النقيض من "القوة الناعمة"، كونها تعتمد على الإغواء بالدفع (الرشوة وشراء الذمم) أو الإكراه بالتهديد.

ركّزت السرديات الرسمية الروسية على مفردات تُقدّم النظام الأوكراني بوصفه متورّطاً في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان

ما يدعو إلى استحضار هذه المقدّمة عن أنواع القوة الغزو الروسي أوكرانيا، والذي لا يمكن التطرّق له من دون الحديث عن تحوّلات القوة في السياسة الروسية خلال العقدين الماضيين، والتي يمكن وضعها في إطار التحولات بين "القوة الحادّة" و"القوّة الخشنة". وما يعزّز هذا الحديث تسويق روسيا مجموعة متنوعة من الروايات قبل غزوها أوكرانيا، بعضها تاريخي وبعضها ديني، وبعضها الآخر سياسي – أمني، في محاولة منها لتحقيق نوع من التناغم بين استراتيجيات القوة. ومن ذلك نظر روسيا إلى غزوها الأراضي الأوكرانية على أنّه أمر يتجاوز مجرّد الصراع العسكري بين دولتين متجاورتين، إلى اعتبار أوكرانيا جزءاً تاريخياً من الأمة الروسية، والتي تجمعها مع بيلاروسيا وحدة العرق السلافي، باعتبار أنّ هذه الدول الثلاث تنحدر من الدولة الروسية الأولى "كييف روس". كذلك يمكن تلمّس هذا الأمر في ما يمكن اعتباره متغيّراً دينياً في "القوة الحادّة" الروسية، والتي تشير إلى استخدام روسيا الدعاية الدينية إلى جانب أدوات المعلومات والاتصالات والتكنولوجيا لنشر الأفكار والرسائل المحتمل أن تزرع الفتنة والتوتر في المجتمعات المستهدفة، كالمجتمع الأوكراني، إلى جانب استخدام "القوة الصلبة" التي غالباً ما ترتبط بالقوة العسكرية.

وبالتالي، حاولت موسكو التي فاوضت الغرب قبل غزوها أوكرانيا، وفقاً لمعادلة "صافح بيد واحمل الحجر باليد الأخرى" التي تُنسب لأشهر الدبلوماسيين السوفييت، غروميكو، العمل على خطين متوازيين، الأول يقوم على تكثيف التحرّكات السياسية والدبلوماسية والحرب الدعائية المكثفة التي شكّلت المعلومات قوامها الرئيس، حقيقة أم ملفقة، وتضافرت فيها آلات الدعاية التقليدية ووسائل الاتصالات الحديثة كـ"فيسبوك" و"تيك توك" و"تويتر" و"تيليغرام" إلى جانب مصادر الاستخبارات المفتوحة، مع صياغة خطاب رسمي للرواية الروسية للغزو، عمد إلى تضخيم حجم التهديد المُحدق بالدولة. كما ركّزت السرديات الرسمية الروسية على مفردات تُقدّم النظام الأوكراني بوصفه متورّطاً في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم، ومحاولة محو هويتهما الثقافية، وإثارة الفوضى والنعرات الطائفية بين الشعبين، الروسي والأوكراني، وقمع مكونات المجتمع الأوكراني، وفرض حصار اقتصادي عليهم وتدمير المدارس. ولتدعيم سردية الاعتداء على المصالح الأمنية الروسية تمّ استدعاء مشاهد وحقب تاريخية تحمل مدلولات سياسية معينة، كوصف القادة الأوكرانيين بـ "النازيين الجدد". ويقوم الثاني على حشد أكبر قوة عسكرية على حدود أوكرانيا، ومن ثم بدء الغزو مترافقاً مع شنّ منصات إعلامية ومواقع للتواصل عملية معلوماتية، هدفت إلى تعظيم النجاحات العسكرية الميدانية للقوات الروسية، وإضعاف معنويات الجيش والشعب الأوكراني، وذلك في إطار محاولة الدمج والتحولات بين القوتين الحادّة والخشنة.