في تحولات الحزب الديمقراطي من قضية فلسطين
كتبت في مقالي في "العربي الجديد" الأسبوع الماضي (14/5/2021)، تحت عنوان "الوقوع الفلسطيني المتكرّر في الفخ الأميركي": إن "الإطار العام للموقف الأميركي من القضية الفلسطينية هو الانحياز والتواطؤ لصالح الكيان الصهيوني". وأنه منذ عام 1917، عندما دعمت إدارة الرئيس الديمقراطي، وودرو ويلسون، وعد بلفور البريطاني الذي منح اليهود "وطناً قومياً" في فلسطين، "مروراً بمحطتي النكبة عام 1948 والنكسة عام 1967، وما تلتهما من نكبات ونكسات، لم تحد الإدارات الأميركية المتعاقبة، جمهورية وديمقراطية، عن دعم إسرائيل والانحياز إليها، سواء رغبة أم ضعفاً أمامها وأمام اللوبي الداعم لها في الولايات المتحدة". وانتهى المقال إلى القول: "صحيح أن هناك تغيرات جادّة في صفوف الحزب الديمقراطي لصالح الشعب الفلسطيني، ولكن ترجمتها إلى تغيير حقيقي وذي معنى في المقاربة الأميركية للصراع ستأخذ وقتاً، وهذا ما لا يملكه الفلسطينيون على الأرض الآن".
يتابع هذا المقال من هذه النقطة عن تغييرات حقيقية في أنماط التفاعل الديمقراطي مع ما يوصف بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. على مدى الأسبوعين الماضيين، شهدنا مواقف من أعضاء ديمقراطيين في الكونغرس، تدين إسرائيل بشكلٍ لا سابق له. لم يكتف هؤلاء بتغريداتٍ عبر "تويتر"، ولا بكلماتٍ مدويةٍ عبر منبري مجلسيِّ النواب والشيوخ، بل وصل الأمر إلى حد إصدار رسائل مشتركة، وقع على كل واحدةٍ منها مجموعة أعضاء، إلى إدارة الرئيس جو بايدن تطالبها بأخذ موقفٍ أكثر صرامة من إسرائيل وعدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني.
بيان البيت الأبيض لم يشر، كما جرت العادة، إلى "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"
ولكن، ومع استمرار إدارة بايدن في تواطؤها المفضوح مع إسرائيل بذريعة "حقها في الدفاع عن نفسها" مقابل الفلسطينيين المحرومين من هذا الحق، تطوّرت الأمور إلى انقسامٍ داخل ممثلي الحزب الديمقراطي في الكونغرس، بين أغلبيةٍ مؤيدة لإسرائيل، وأقلية، ولكنها مؤثرة ومتزايدة، حانقة بسبب ذلك. ومع إعلام إدارة بايدن الكونغرس نيتها "بيع" إسرائيل أسلحة وذخائر بقيمة 735 مليون دولار، وهي صفقةٌ اتفق عليها بين الطرفين قبل التصعيد الإسرائيلي في القدس أخيرا، ثمَّ العدوان على قطاع غزة، حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ أعلنت النائبة الديمقراطية من نيويورك، ألكساندريا أوكازيو كورتيز، الأربعاء الماضي، أنها ستتقدم بمشروع قانون لمنع هذه الصفقة، والتي هي مموّلة من المعونات السنوية الأميركية لإسرائيل، والبالغة 3.8 مليارات دولار. ويبدو أن السناتور بيرني ساندرز سيقدّم مشروعاً مماثلاً في مجلس الشيوخ، وهو الأمر المتوقع أن يكون قد تمَّ لحظة نشر هذا المقال. هذه تطوراتٌ لم يسبق قط أن شهدتها العلاقات الأميركية – الإسرائيلية.
في ضوء هذه المستجدات داخل الحزب الديمقراطي، أعلن البيت الأبيض، الأربعاء الماضي، عن اتصال جرى بين بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وهو الرابع بينهما خلال أقل من أسبوعين، أي منذ بدأ العدوان على قطاع غزة. الجديد في الاتصال أن بيان البيت الأبيض لم يشر، كما جرت العادة، إلى "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، بقدر ما أنه ركز على أن "الرئيس أبلغ رئيس الوزراء أنه يتوقع اليوم تخفيضاً كبيراً في التصعيد على طريق وقف إطلاق النار". ما لم يشر إليه البيان كشفه مسؤولون أميركيون طلبوا عدم نشر أسمائهم، أفادوا بأن بايدن أخبر نتنياهو أن الديناميكيات السياسية تتغير في الكونغرس ضد إسرائيل، حتى بين أعضاء من المؤيدين المبدئيين لها. كشف فحوى الحوار بهذه الطريقة مقصود من إدارة بايدن، وذلك لممارسة مزيد من الضغوط على حكومة نتنياهو.
تغييرات حقيقية في الولايات المتحدة خصوصاً بين الديمقراطيين والشباب والأقليات ونجوم هوليوود، نحو الموقف من إسرائيل
ثلاثة أسباب تشرح هذا التغيير في موقف إدارة بايدن. الأول، لم تحبّذ هذه الإدارة منذ اليوم الأول الخطوات الاستفزازية الإسرائيلية في القدس، فآخر شيء تريده هو صراع جديد في الشرق الأوسط يعيد جرَّ إقدامها إلى وحله، وهي التي تحاول أن تخفف عبء تورّطها فيه، للتركيز على الصعود الصيني السريع، والتحدّي الروسي المتزايد. الثاني، خشية تأثير الانقسام الديمقراطي – الديمقراطي بشأن إسرائيل على الأغلبية الضئيلة للحزب في مجلس النواب (6 أصوات)، وتقاسمهم مقاعد مجلس الشيوخ مناصفة مع الحزب الجمهوري (50 – 50)، مع ترجيح نائبة الرئيس لأصوات الديمقراطيين (50 + 1). وقد يعقّد مثل هذا الانقسام تمرير قوانين وأجندة أخرى يريدها بايدن في الكونغرس، وبالتالي فإنه بحاجةٍ إلى كل صوت من أصوات حزبه. الثالث، وهو الأهم، التغير التدريجي الجاري في الحزب الديمقراطي منذ سنوات نحو إسرائيل، إذ إن أغلبية بين صفوفه الآن تريد موقفاً أكثر اتزاناً وعدلاً بين الطرفين الفلسطيني – والإسرائيلي. وقد كشف استطلاع رأي جرى قبل أيام أن 38.5% من الديمقراطيين يحمّلون إسرائيل مسؤولية التصعيد الحالي، مقابل 15.5% يلومون حركة حماس. قارن ذلك بنسبة 27.4% من الأميركيين عموماً تحمّل إسرائيل مسؤولية التصعيد، و12.5% فقط من الجمهوريين يرون ذلك. إذن، ثمَّة إدراك أن التيار الشاب التقدّمي بين الديمقراطيين بدأ يؤثر فعلاً في مواقف الحزب وأجندته، ليس المحلية فقط، بل حتى على صعيد السياسة الخارجية. ولا يخفي هذا التيار موقفه الصارم من أن إسرائيل تمارس سياساتٍ عنصرية ضد الفلسطينيين لا تقل سوءاً ووحشية عن التي تمارسها المؤسسة الأميركية ضد الأقليات، وخصوصاً السود. ومن ثمَّ، يرى هذا التيار التقدمي، بمن فيه قاعدة شبابية يهودية أميركية، كفاح الفلسطينيين من أجل الحرية والكرامة والمساواة والعدل جزءاً أصيلاً من "حركة العدالة الاجتماعية الأميركية"، خصوصاً أن خبراء أمنيين إسرائيليين هم من يدرّبون قوات الشرطة الأميركية على التعامل مع الاحتجاجات المدنية. هذا موثّق، وهو في قلب صراع حركة الحقوق المدنية ضد وحشية الشرطة ضد السود الأميركيين.
هناك تغيرات جادّة في صفوف الحزب الديمقراطي لصالح الشعب الفلسطيني
باختصار، ثمَّة تغييرات حقيقية في الولايات المتحدة، خصوصاً بين الديمقراطيين والشباب والأقليات ونجوم هوليوود، نحو الموقف من إسرائيل كنظام فصل عنصري، وهو أمرٌ يستحق الاستثمار فيه. أتحدث هنا من موقع من هو منخرط مباشرة في محاولة تعظيم هذا التيار وتسريعه أميركياً، وداخل الحزب الديمقراطي لاستبدال قياداته الشائخة المنفصلة عن قواعده الأكثر شبابية، ولكن مشكلتنا هي في أنظمة عربية تتحالف مع إسرائيل وتحاول تبييض صفحتها، وموقف رسمي فلسطيني مخزٍ للأسف، لا يزال يعيش في الماضي. وكما ختمت مقال الأسبوع الماضي، أختم هنا: "صحيح أن هناك تغيرات جادّة في صفوف الحزب الديمقراطي لصالح الشعب الفلسطيني، ولكن ترجمتها إلى تغيير حقيقي وذي معنى في المقاربة الأميركية للصراع ستأخذ وقتاً، وهذا ما لا يملكه الفلسطينيون على الأرض الآن. دعوا هذا الأمر لفلسطينيي أميركا، ولكن لا تختزلوا مستقبل الشعب والقضية في هذا التغيير، حدث أم لا".