في تجربة البرازيل

02 ديسمبر 2022
+ الخط -

رغم مرور أسابيع على فوز لولا دا سيلفا بمقعد الرئاسة في البرازيل، إلا أن الحدث لا تزال فيه نقاط عديدة مهمّة جديرة بالدراسة، ويعيد إلى أذهاننا كيف كانت تجربة البرازيل ملهمة لنا في فترة ما بعد الثورات العربية التي انطلقت في 2011، فبدايةً يعتبر فوز اليساري لولا دا سيلفا بمنصب الرئاسة في دولة هامة، مثل البرازيل، كنقطة بيضاء في ظل صعود اليمين، أخيرا، في أماكن عديدة.

إنه لولا دا سيلفا، الرئيس الذي حكم البرازيل منذ 2002 حتى 2010، ورفض مطالبات كثيرين من أنصاره بتعديل الدستور الذي ينصّ على أن مدة الرئاسة لا تتعدى فترتين متواليتين، وهو الرئيس السابق الذي حاول أنصار اليمين البرازيلي زجّه في السجن بتهمة الفساد لمنعه من الترشّح أخيرا، عندما أعلن عن نيته الترشّح للانتخابات الرئاسية بعد فوز جايير بولسونارو في 2019. وهو الرئيس الذي استطاع تحويل البرازيل من بلد فقير مثقل بالديون إلى دولة صناعية زراعية لها ثقل كبير وسط الدول الصناعية الكبرى، والذي استطاع تطبيق برامج اجتماعية هامة وملهمة لتقليل الفجوة بين الطبقات، واستطاع إحداث فرقٍ حقيقي بين النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

أطلقوا عليه لقب بطل الفقراء، لأنه نفذ برامج اجتماعية عديدة قللت الفجوات بين الطبقات، ورفعت مستوى المعيشة بشكل كبير. ورغم برامجه ذات النزعة الاشتراكية، إلا أنه استطاع دمج الرأسمالية في برامجه بشكل آمن، كما استطاع تجنّب غضب العسكريين أو انقلابهم عليه، حتى أصبحت البرازيل من أكبر القوى الاقتصادية في العالم.

يعتبر فوز اليساري لولا دا سيلفا بمنصب الرئاسة في دولة هامة، مثل البرازيل، نقطة بيضاء في ظل صعود اليمين

قبل أن ينخرط في العمل السياسي، كانت له مسيرة حافلة، من ملمّع للأحذية وعامل نظافة وصبي توصيل، إلى عامل في مهنة الحدادة، لكنه لم يكن مهتما بالعمل السياسي في بداية حياته، إلى أن توفيت زوجته بمرض خطير بعد عام من زواجهما، فبدأ الانخراط في العمل النقابي إلى أن تولّى قيادة نقابة عمّال الحديد، وكان له دور هام في إضرابات محورية في فترة الحكم العسكري (1964-1985)، وتم القبض عليه عام 1981 بعد قيادته لإضراب عمالي، وهي الفترة التي كانت فيها الإضرابات غير معتادة، ترشّح للانتخابات الرئاسية ثلاث مرات، حتى استطاع الفوز عام 2002 بنسبة 62%، وتمكّن من الاستمرار في الرئاسة فترتين متتاليتين، لكنه رفض مطالبات من بعض محبيه بتعديل الدستور حتى يستمر فترة ثالثة، فلا ينص الدستور على جواز هذا.

كانت فترة عمله النقابي مدرسة في أسلوب إيجاد المساحات المشتركة بين الجميع وإحداث التقارب بين المختلفين فكريا وتنظيميا، ولكن فوزه على بولسونارو بفارق ضئيل من الملاحظات الجديرة بالاعتبار أيضا، فلماذا تُصبح لليمين قدم في الدول التي تعاني شعوبها من الفقر؟ وما الذي دفع الشعب البرازيلي إلى انتخاب شخصٍ مؤيد للفاشية والقمع، مثل بولسونارو، ترامب البرازيل كما أطلقت عليه بعض وسائل الإعلام، حليف نتنياهو والصهيونية؟ الأزمات السياسية والاقتصادية تكون هي السبب الرئيسي في انجذاب الجماهير للخطابات الشعبوية، ففي فترة حكم ديلما روسيف، خليفة لولا دا سيلفا، كانت هناك إخفاقات عديدة، مثل تورّط مسؤولين كثيرين بحكومتها في قضايا فساد، بالإضافة إلى سوء الخدمات وزيادة الأسعار، بعد استضافة البرازيل كأس العالم، ثم تراجع الاقتصاد البرازيلي بشدّة عام 2014، وتصاعدت الاحتجاجات إلى أن جرى عزلها من البرلمان عام 2016، وتسبّبت الإخفاقات المنسوبة لها إلى صعود الأحزاب اليمينية والشعبوية بعد استغلالهم الأزمة، فاستطاع بولسونارو النفاذ إلى عقول الجماهير الغاضبة والمتردّدة بعد استخدامه خطابا شعبويا، بالإضافة إلى البعد الديني، وإشارته، في مناسبات عديدة، إلى أنه في مهمة من أجل الله، بالإضافة إلى خلفيته العسكرية وتأييده العلني فترة الحكم العسكري في البرازيل (1964-1985)، وهو التصريح الذي قوبل بموجة احتجاجات من اليسار وداعمي الديمقراطية، حيث تعد فترة الحكم العسكري من أسوأ الفترات في تاريخ البرازيل بالنسبة لقضايا الديمقراطية والحريات.

لم يكن تخلي العسكر عن السلطة حبّاً بالديمقراطية، وإنما للمحافظة على مكتسبات الطبقة العسكرية وامتيازاتها العملاقة

في الواقع، تعود بداية الحقبة العسكرية إلى سنة 1930 عندما تولّى الجنرال غيتويلو فارغاس الحكم، ومن بعده تعاقبت الحكومات العسكرية، وتراجعت الديمقراطية والحرية، وانتشرت الاعتقالات والأزمات الاقتصادية والحروب الأهلية داخل البرازيل، ولكن أيضا تجب الإشارة إلى أنها كانت من الفترات المهمة على مستوى الانطلاقة الصناعية للبرازيل، فرغم الديكتاتورية والقمع والانقسامات الداخلية، كانت هناك مشروعات عديدة قومية كبرى أثرت في البرازيل كثيرا، فقد أسّس فارغاس الدولة الصناعية الجديدة. وكان حكمه استبداديا دمويا، ولكنه أحدث نهضة كبرى في مجالات صناعية عديدة، ثم كان في الخمسينيات، جوسيلونو كوبيتشيك، الذي كانت في عهده نهضة صناعة السيارات والصناعات الثقيلة، والطرق السريعة، وشرع في إنشاء "العاصمة الجديدة" برازيليا. وأدى ذلك إلى نمو اقتصادي كبير وزيادة في الإنتاج، في البداية، ولكن هذا كله ضاع بسبب القروض والتكلفة الضخمة لبناء العاصمة الجديدة، الديون الخارجية والتضخّم، فعمّت المظاهرات والاضطرابات، وازدادت الفجوة بين الطبقات.

أما الانقلاب الأبرز في البرازيل عام 1964 فقد حدث عندما جاء إلى السلطة الرئيس ذو الميول الاشتراكية، غولار، الذي جاء خلفا للرئيس المستقيل كوادروس عام 1964. ولكن بسبب ميوله الاشتراكية وتأييده مطالبات العمّال وقرارات التأميم، حدث بعض الصدام مع المؤسسة العسكرية، فتم تدبير انقلاب عسكري ضده بمباركة الولايات المتحدة، واستمر ذلك الانقلاب حتى عام 1985؛ وكان ناعما، فلم يظهر العسكريون نياتهم في بداية الأمر، وكان هناك دعم لذلك الانقلاب من رجال الأعمال المحتكرين ومن رجال الكنيسة، وبالطبع من باقي أطياف اليمين القومي والمحافظ.

والمثير للسخرية بالنسبة لجيلنا هو ذلك التشابه في بعض التفاصيل، فمثلا كان هناك وقتها جدل مشابه في توصيف ما حدث، فالصحف الأميركية الموالية للجمهوريين، أو لليمين بصفة عامة، وصفت ما حدث بالثورة الشعبية التي أيّدها العسكر في البرازيل. أما الكتّاب والصحف الداعمة للديمقراطية، وكذلك الصحف المحسوبة على اليسار في العالم، فقد وصفوا ما حدث بالانقلاب العسكري الصريح، فالولايات المتحدة في ذلك الوقت دعمت انقلابات عسكرية عديدة في أميركا الجنوبية وأفريقيا، بالتحالف مع الرأسماليين والقوى اليمينية في تلك البلدان، ما أدّى إلى زيادة معاناة الطبقات الفقيرة والفجوة بين الطبقات، وركّز الحكم العسكري على القروض في محاولة لجذب الاستثمارات ورفع معدل النمو، ولكن تراكم الديون أدّى إلى زيادة معدّلات التضخم وانخفاض معدّلات النمو.

من المهم جداً استمرار دراسة التجربة البرازيلية، وأداء الحكم العسكري وكيفية حدوث الفترة الانتقالية في الثمانينيات والتسعينيات

وفي منتصف السبعينيات، تولى الجنرال إرنستو غيسيل، ومن بعده الجنرال جون بابتيستا فيغوريدو، رئاسة البلاد حتى منتصف الثمانينيات، وسار كلاهما في طريق التحوّل التدريجي نحو الحكم المدني، بعد توالي الأزمات الاقتصادية العنيفة وتراكم الديون الخارجية وزيادة التضخم الذي تزامن معه انقسام مجتمعي وسياسي حاد واضطرابات كثيرة لم يفلح القمع المفرط في وقفها. إلى أن جرى انتخاب أول رئيس مدني عام 1985 ثم لولا دا سيلفا عام 2002 حتى 2010، ثم بعد ذلك حليفته ديلما روسيف التي كان قد جرى اعتقالها في فترة الحكم العسكري. أما التسعينيات فتعتبر فترة انتقالية بين الحكمين، العسكري والمدني. وبالرغم من ذلك، زادت معدلات الخصخصة والتحرّر الاقتصادي، ما زاد معها معدّلات النمو، ولكن أيضا استمرّت معاناة الطبقات الفقيرة، وازدادت الفجوة بين الطبقات، ولكن مع فوز لولا دا سيلفا بالسلطة عام 2002 تغير الأمر تماما، واستطاع تحقيق نهضة غير مسبوقة اعتبرها بعضهم معجزة.

ولم يكن تخلي العسكر عن السلطة حباً بالديمقراطية، وإنما من أجل المحافظة على مكتسبات الطبقة العسكرية وامتيازاتها العملاقة، وترك الحكم للسياسيين بدون التدخل في مصالح العسكريين. ولذلك تمت الاستعانة بالنموذج الجنوب أفريقي في العدالة الانتقالية، وبذلك لم تكن هناك إجراءات انتقامية ممن كانوا في السلطة في فترة الحكم العسكري، وإن كان هناك اتجاه وإجراءات لكشف الحقائق والانتهاكات، فيُذكر مثلا أن أسطورة كرة القدم البرازيلي، بيليه، كان يتعرّض للمراقبة المستمرة والمضايقات في أوج شهرته، كما عديدون من نجوم السينما وكرة القدم، في ما يشبه أداء نظام جمال عبد الناصر في مصر في تجنيد المشاهير أو ابتزازهم عن طريق الفضائح الجنسية، تم الكشف عنها بعد هزيمة 1967.

وبشكل عام، لا يختلف أداء الحكومات العسكرية كثيرا على مرّ التاريخ. ولذلك من المهم جدا استمرار دراسة التجربة البرازيلية، وأداء الحكم العسكري وكيفية حدوث الفترة الانتقالية في الثمانينيات والتسعينيات، وكذلك دراسة النهضة التنموية التي استطاع لولا دا سيلفا إحداثها بعد ذلك.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017