في بناء النموذج الافتراضي وهدمه
على العكس تماماً من النموذج الرياضي المعياري، أو النموذج البصري الهندسي، فإن النموذج الافتراض القائم على تقديراتٍ موضعيةٍ مشوبةٍ بتمنيّاتٍ ذاتية، يقبل التطوّر والتعديل كلما اقتضى الأمر إجراء تغيير لا بد منه، سيما وأن قوام مثل هذا النموذج الذهني هو الصور والخبرات والوقائع والانطباعات، والرغبات أحياناً، الأمر الذي يجعل هذا المتخيّل على درجةٍ عاليةٍ من السيولة، يتشكّل بتشكّل المعارف والقيم المستجدّة والنوازع الكامنة، ويدرج مدارج الهوى والميول، لكأنه قبضة من طينٍ مائعٍ لا تجف أبداً، فإن تعرّضت لوهج شمس الحقيقة الناصعة، تقدّدت مثل سطح أرض جافة انحبست عنها الأمطار سنوات.
حين نصنع نموذجنا الذهني، نحاول بداية أن نقاربه إلى مثالٍ معيّن، ثم نكسو هذا النموذج شحماً ولحماً، ننفخ فيه من أرواحنا، نعتني به وننقّيه من كل سوء، نُجلسه قبالة عين القلب، ونبدأ في تقويمه، نفكّكه مراراً ونعيد تركيبه، إلى أن يغدو في أحسن صورة، ويُمسي أقرب ما يكون إلى المثل الأعلى لدينا، ثم يبيت كائناً تجري في عروقه الدماء، يقوم ويقعُد معنا، يأكل من صحوننا وينام في فراشنا، نموذجاً حياً لعقد المقارنات والرهانات والإسقاطات الذاتية الصامتة.
ويبدو أننا حين نبدأ في تعديل هذا النموذج، ثم نروح نجوّده ونُسرف في تحسينه داخلنا، فإننا في حقيقة الأمر نكون قد بدأنا في صنع صورتنا عن أنفسنا، أو في خلق ما نودّ أن تكون عليه صورتنا في أعين الآخرين، أي ما نشتهي أن نكون عليه وما نرغب في أن نصيرَه اليوم أو غداً أو بعد غد، مبرزين في ذلك أجمل ما فينا وأفضل ما لدينا، متستّرين، في الوقت ذاته، على كل ما في دواخلنا من نواقص، وكل ما في خلجاتنا من ضعفٍ واستلابٍ وانكساراتٍ لا تسرّ الناظرين إليها.
بكلام آخر، ليس النموذج الذهني الذي نصنعه للغير منفصلاً بالضرورة عنا، ولا مستقلاً عما فينا وعما لدينا، فمن كان يستشعر لديه قدراً من الاستقامة الذاتية أو الإيثار أو الصدق والمروءة والموضوعية، فإن نموذجه عن الآخر يأتي مستكملاً كل هذه الخصائص، متجمّلاً بكل هذه الصفات المرغوب بها، وكلما ازداد المرء انشغالاً بهذا النموذج وأفرط في تمثله أضفى عليه مزيداً من جمالياته، وسكب فيه شيئاً من تجليات روحه الشفيفة.
وهكذا، تبدأ النماذج التي نصنعها عن الغير في التخلق التدريجي البطيء خلال مراحل الاكتشافات المبكّرة، ثم ترقى وتترقى في ظل حالة من عدم اليقين والتأكد، الأمر الذي يسمح للخيال البشري بأن يفعل فعله، وللصور المتناسقة على نحو تلقائي في التراصف، معدِّلة في النموذج الذي هو بعد في مرحلة التشكّل الرخوة، أو مكمّلة له، في إطار عملية مستمرّة من الإحلال والتغيير والتبديل، تلك التي من شأنها أن تفضي، في نهاية المطاف، إلى تكوين نموذج ذهني مطلق، يتراوح على سلم خشبي متحرّك، تترامى درجاته بين حد أدنى من الحقائق الأولية المختبرة ومستوى أعلى من الرغائب الذاتية المشتهاة.
ولكيلا نسرف أكثر في تجريد هذه المقاربة التأملية، فإن ما نودّ قوله بأيسر قسط من المباشرة أن النماذج التي نصنعها عن الغير إنما هي نماذجنا عن أنفسنا في مستقرّاتها الراهنة أو في مدارجها المبتغاة. وما الشعور العميق بالخذلان أو الحسّ المسرف بالقهر والغبن وقلة الحيلة، الذي يتلبّسنا حين تخوننا هذه النماذج، وتتكشّف لنا عن غير ما كنا قد أضفينا عليها من جماليات، إلا صدى دويّ الانهيار الذي ما كنا قد توقعناه، حيث نحزن على أنفسنا أكثر من حزننا على النموذج ذاته، ونحتدم غضباً حيال النفس على نحو أشدّ غضباً على انهيار بناء النموذج الذي أقمناه على أرضية رملية لزجة حسبنا أنها صخرة صمّاء.
على أي حال، هذا العصر هو عصر انهيار النماذج وانحطام الآمال وتبدّد الأحلام وانقصاف الأمنيات، يستوي في ذلك النموذج العام على المستويين: الراهن والتاريخي، مع النموذج الخاص على وجهيه، المادي والعاطفي، الأمر الذي يدعو حقاً إلى عدم الاشتغال كثيراً بالنماذج الذهنية المتخيّلة، وعدم البكاء طويلاً على اللبن المُراق. وفي المقابل، تعريض كل ما لدينا من نماذج مجرّدة إلى وهج شمس الحقيقة القادرة، وحدها، على إعادة ردّ مثل هذه النماذج المتخيّلة إلى عناصرها الأولية، وذلك حتى نقول ما قاله الشاعر المخذول: "كان صرحاً من خيالٍ فهوى".