في انتظار سلام لا يجيء
يعيش السودانيون أياما من دون خدمة اتصال هاتفي أو إمكانية الوصول إلى الإنترنت، وهي حالة عانى منها مواطنو إقليم دارفور منذ شهور الحرب الأولى، لكنها عمّت البلاد كلها اليوم. وكالعادة، تبادل طرفا الصراع الاتهامات بشأن مرتكب هذه الجريمة، وسط إدانات دولية ومحلية، تخشى على حياة ملايين السودانيين عالقين في أماكن الحرب أو فرّوا منها، وتعتمد حياتهم على التحويلات البنكية من اسرهم خارج البلاد.
تعامل السلطات السودانية خدمة الهاتف والإنترنت باعتبارهما من الرفاهيات، بل وصف عضو المجلس العسكري (الحاكم)، شمس الدين الكباشي، الإنترنت في 2019 بأنه مهدّد للأمن القومي. منذ اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر/ كانون الأول 2018 درجت السلطات على قطع خدمات الاتصالات بالأيام والأسابيع، وفي بعض الحالات بالشهور. ذلك لعقاب المواطنين، ومنعهم من التنسيق للتظاهر وتبادل أخبار المواكب الاحتجاجية. وشاركت الحكومة الانتقالية المدنية في جريمة مشابهة عندما سنّت تقليداً بقطع الإنترنت في كل البلاد لمنع الغشّ في امتحانات طلاب الثانوية العامة.
مع اختفاء السودان خلف حالة "إظلام الاتصالات التام" يتواصل القلق العالمي على مصير 25 مليون سوداني يعيشون على حافّة المجاعة، ما دفع الوساطات الدولية إلى الضغط على طرفي الصراع للقبول بعملية تفاوضية للوصول إلى تفاهمات بشأن إيصال المساعدات الإنسانية إلى المواطنين. قد يكون هذا الاجتماع المتوقع عقده نهاية الأسبوع المقبل باباً خلفياً لهدنة قصيرة. تسمح لعاملي منظمّات الإغاثة بالوصول إلى المستهدفين بأمان. لكن ذلك قد يجرّ إلى ما ظلت قوات الدعم السريع تحوم حوله منذ أيام الحرب الأولى، الاعتراف، ولو المؤقت، بحقها في إدارة الأراضي التي تسيطر عليها. وهي أغلب العاصمة الخرطوم، وأغلب ولاية الجزيرة ثاني أهم ولايات السودان، وأغلب إقليم دارفور. وربما تشغيل مطار في دارفور لضمان وصول الإغاثة للإقليم المنكوب. وهو ما يهدّد بإثارة غضب قطاع أوسع من العسكريين والمدنيين، خصوصاً بعد أنباء المحاولة الانقلابية أخيرا، والتي جوبهت بنفي رسمي خجول، في مواجهة أخبارٍ كثيرة من مصادر متعدّدة تؤكد أن المحاولة كانت تمرّداً صغيراً لمجموعة تشعر بالغضب من أخبار المفاوضات السرّية بين قيادات الجيش وقيادات الدعم السريع في المنامة البحرينية. فإن كانت المجموعة الانقلابية صغيرة، فالغضب ضد قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أكبر انتشاراً. ويحمّله كثيرون من مناصري الحرب مسؤولية تدهور الوضع العسكري، حتى يتطرّف بعضهم ويتهمه بالتواطؤ مع قوات الدعم السريع!
الانقلاب غير معلوم التفاصيل ليس إلا علامة مقلقة لما يحدُث في جبهة الجيش من تصدّعات. وهي مسألة مخيفة في بلاد تترنّح على حافة الحرب الأهلية بعد مذابح عرقية ارتُكبت خلال هذه الحرب وقبلها. لكن واقع البلاد اليوم لا يتحمّل أي انشقاقاتٍ في الجيش، أو انخراط مزيد من الأطراف مثل حركات دارفور فيها، خصوصاً مع حالة التجييش والتسليح التي عمّت كثيرا من مدن شمال السودان تحسّباً لهجوم قوات الدعم السريع. ما يعني أن السودان لا تعيش فقط حرباً بين الجيش و"الدعم السريع"، إنما تفعل ذلك وهي تقف فوق بحيرة من السلاح والمجموعات شبه العسكرية المدرّبة والقبائل المسلحة.
وتماشياً مع الوضع القاتم تصدر تصريحات طرفي الحرب تحمل التهديد والوعيد، والبشريات بحسم الصراع عسكرياً في أقرب وقت، مع كثافة في نشر الإعلام العسكري لأخبار انتصارات وعمليات ناجحة في مدينة أم درمان. لكن هل ما يدور في الغرف المغلقة هو نفسه ما يقال في تصريحات الحرب العلنية؟
ظهرت على الميسّرين الدوليين أخيراً الرغبة في إبعاد جهودهم عن الأضواء قدر الإمكان. لذلك يدور الحديث بين الجيش و"الدعم السريع" عبر أكثر من قناة، وفي أكثر من مدخل. كما تجري محاولات إقليمية لتطبيع المواقف بين قوى الحرية والتغيير والكتلة الديمقراطية التي ساهمت في انقلاب 25 أكتوبر ضد حكومة عبدالله حمدوك الانتقالية. لكن ذلك كله لا يحمل بشريات حل أو انفراج لملايين السودانيين، فقد علّمتهم التجربة أن توقيع أي وثيقة لا يعني أن تتوقف إراقة الدماء. وكل اتفاقيات السلام، لم تجلب السلام!