في الموقف من التطبيع الثقافي والاقتصادي

21 نوفمبر 2022
+ الخط -

تتقدّم حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) بخطوات حثيثة على المستوى الدولي، رغم عدم تمكّنها من تحقيق هدفها الأهم؛ فرض مقاطعة دولية على الاحتلال الصهيوني. ولا ينتقص هذا من قيمة حركة المقاطعة وأهميتها، بقدر ما يذكّر بأهمية الهدف المعلن وضرورة التركيز عليه، خصوصاً بعد تسارع وتيرة التطبيع في المنطقة العربية، المحكومة من حكومات استبدادية قسرية، لا تفسح أي مجال للمشاركة الشعبية في آليات صنع القرار واتخاذه، كما تحظر على مواطنيها النشاط السياسي أو حتى الاجتماعي والثقافي الذي يهدّد توجهاتها وسيطرتها أو يعارضها.
تشهد منطقتنا العربية، أخيرا، مظاهر تطبيع متعدّدة سياسية واقتصادية وثقافية، كما تتنوّع الجهات أو الدول المطبّعة، من الإمارات إلى مصر مروراً بالأردن والمغرب والبحرين والسودان، فضلاً عن الاتفاقيات والخطوات الخلافية، التي تنقسم الآراء حولها، أبرزها في الأسابيع الأخيرة، اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الدولة اللبنانية ودولة الاحتلال الصهيونية عبر وساطة أميركية، وأيضاً الجدل بشأن التطبيع الثقافي، وبالتحديد حول الموقف من ترجمة أعمالٍ أدبية عربية إلى العبرية، بعد ترجمة دار مكتوب رواية الروائي الفلسطيني، "مشاة لا يعبرون الطريق".
يكشف هذا الجدل بشأن التطبيع من عدمه عن أوجه قصور لا بد من معالجته بجدّية وسرعة، كي نطوّر من آليات نضالنا التحرّري، ومن آليات حركة المقاطعة، فالهدف الرئيسي من المقاطعة بيّن وواضح، متمثل في محاصرة الاحتلال وتقويض إمكانية استمراره، عبر محاصرة مصادر قوتِه وقوته على حد سواء، في مقابل توسيع أفاق حركة التحرر الوطني وإمكاناتها على جميع المستويات.
من هنا، نفهم المقاطعة الثقافية على اعتبارها طوقاً ثقافياً مفروضاً على نهج الفصل العنصري والتطهير العرقي الصهيوني، في مقابل توسيع مجالات الخطاب التحرّري الفلسطيني المباشر وغير المباشر، الأمر الذي يتضمّن مخاطبة اتباع الديانة اليهودية والناطقين باللغة العبرية المعتمدة لدى الاحتلال الصهيوني أو سواها، رغم محدودية مردود هذا الخطاب.

لا تضع محدّدات حركة المقاطعة فيتو على فعل الترجمة من ناحية نظرية، لكنها تستحيل عملياً وفق الواقع الراهن

إذاً، لا تعني المقاطعة الثقافية وضع فيتو على مخاطبة الناطقين بالعبرية، عبر وسائل إعلامية ناطقة بها، أو عبر ترجمة أعمال أدبية وسياسية وثقافية تحمل في مضمونها خطاباً تحرّرياً فلسطينياً، أو تعبيراً عن الرواية التاريخية الفلسطينية المبدئية، التي لا تعرف المساومة أو الاستسلام، لكن تعنى المقاطعة بالجهة المسؤولة عن الترجمة.
أثير جدل بشأن دار مكتوب؛ المؤسسة المسؤولة عن ترجمة رواية "مشاة لا يعبرون الطريق"، دورها وعلاقتها بالمؤسسات الصهيونية، ومصادر تمويلها والجهات المستفيدة من عائداتها؛ على فرض وجود عائدات، وعن المتعاونين معها، جميعها أسئلة مشروعة ومحقة ومهمة يصعب حسمها بجرّة قلم؛ كما يقول المثل العربي، لكنها تفتح الباب أمام مسألة أخرى أشد أهمية بكثير، هل نقاطع الترجمة أم نقاطع الجهة المترجمة؟ هل نرغب بمخاطبة الناطقين باللغة العبرية، أم نخشى هذا التوجّه؟ لماذا لا نملك مؤسسات معنية بمخاطبة الناطقين باللغة العبرية؟
لا تضع محدّدات حركة المقاطعة فيتو على فعل الترجمة من ناحية نظرية، لكنها تستحيل عملياً وفق الواقع الراهن. ولا تتحمّل حركة الواقع المسؤولية عن هذا الواقع، بقدر ما يتحمله الجميع، كل المعنيين بالشأن الفلسطيني وشؤون المنطقة، الذين أهملوا مسألة مخاطبة الناطقين بالعبرية، حتى باتت دار مكتوب اهم الجهات الناشطة في ترجمة الأعمال من العربية إلى العبرية. لن أدخل بخلفيات الدار وبدورها، لأن الإشكالية أكبر من حصرها في كيفية تصنيفها، وفهم دورها، وأهدافها، المسألة تتعلق بتقاعسنا عن مخاطبة الناطقين بالعبرية، في حين يبذل الاحتلال الصهيوني جهوداً جبّارةً لمخاطبة الناطقين بالعربية.

نفتقد مؤسسة قوية ومعتبرة معنية بترجمة أعمال عربية إلى العبرية، تشبك علاقاتها مع حاضنة حركة تحرّرنا الاجتماعية في الوسطين الناطقين بالعربية وبالعبرية

لنتذكّر دور راديو إسرائيل في مرحلة ما قبل البث الفضائي، ولنتمعن في عدد (وشكل) مشاركات الناطقين باسم الاحتلال الصهيوني عبر الفضائيات الناطقة بالعربية، والذين يستخدمون اللغة العربية في مشاركاتهم الفضائية، ولنسلط الضوء على مواقع التواصل الاجتماعي الصهيونية الناطقة بالعربية، وعن مبادرات المنح التعليمية والحوار الثقافي وغيرها كثير من المبادرات الصهيونية التي تستهدف الناطقين بالعربية. وفي المقابل، تختفي الجهود الساعية إلى مخاطبة الناطقين بالعبرية، من خلال محتوى ينشر الرواية الفلسطينية التاريخية، ويعبر عن الحقوق الفلسطينية، ويفضح الجرائم الصهيونية ويعرّيها. نفتقد مؤسسة قوية ومعتبرة معنية بترجمة أعمال عربية إلى العبرية، تشبك علاقاتها مع حاضنة حركة تحرّرنا الاجتماعية في الوسطين الناطقين بالعربية وبالعبرية.
تعود القضية الإشكالية الثانية إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبناني - الصهيوني، الذي تجاوزته أو تجاهلته أطراف عديدة، حركة المقاطعة والفصائل الفلسطينية، ربما نتيجة مواقف حزب الله وحركة أمل الداعمة له، وبالتالي موافقة إيرانية!. يقودنا هذا التجاهل إلى إشكالية قد تقوّض مصداقية حركة المقاطعة في المنطقة العربية أولاً، رغم أهمية دورها في المنطقة العربية بعد اتفاقيات إبراهام التطبيعية، ثم قد تدخلها في حسابات الصراعات الإقليمية ثانياً، كما أقحمت الفصائل الفلسطينية سابقاً فيه، الأمر الذي أفقدها حاضنتها الشعبية إقليمياً ودولياً، ومن ثم خسرت مصداقيتها، وأخيراً فقدت قدرتها على الفعل.
يمكن الجدال في مسائل كثيرة وتفاصيل عديدة، تضمنها اتفاق ترسيم الحدود المحتفل به من بعض العابثين والمتاجرين بمصالح شعوب المنطقة، وفي مقدمها الشعبان الفلسطيني واللبناني. لذا ينطلق صاحب هذه المقالة من تفسير "حركة المقاطعة لحملة مقاطعة الشركات والمنتجات الإسرائيلية"، وهو "ممارسة الأعمال التجارية والعلاقات الاقتصادية مع إسرائيل بشكل طبيعي يمنحها الضوء الأخضر لارتكاب مزيد من الانتهاكات بحق الفلسطينيين، كما ويمنح ذلك الحكومة عائداتٍ ضريبيةً لتستخدمها في مواصلة اضطهادها وجرائمها".

اتفاق ترسيم الحدود البحرية اللبناني - الصهيوني هو اتفاق تطبيع اقتصادي لا محالة، حتى لو لم يتضمّن نقل سلع صهيونية إلى لبنان

لقد منح الاتفاق الاحتلال الصهيوني علاقات اقتصادية طبيعية مع دول كثيرة سوف تستورد الغاز المستخرج صهيونياً من حقل كاريش، فضلاً عن علاقة غير مباشرة مع لبنان أيضاً، عبر الشركة المكلفة باستخراج الغاز من الحقل رقم 9. وقد وسّع الاتفاق علاقات الاحتلال الصهيوني التجارية مع دول العالم، بما فيها لبنان نفسه، بما يدعم آلة القتل والتطهير العرقي والفصل العنصري الصهيونية من دون أي مواربة. وعليه، هو اتفاق تطبيع اقتصادي لا محالة، حتى لو لم يتضمّن نقل سلع صهيونية إلى لبنان، إذ تكفي قدرته على رفد ميزانية الاحتلال ودعم جهوده العسكرية والحربية العدوانية والإجرامية، كما وضحت حركة المقاطعة بهدف المقاطعة الاقتصادية مسبقاً. 
نقاش اتفاق ترسيم الحدود متشعّب، وله سلبيات عديدة؛ بل كوارث لا تقل أهمية عن الشق الاقتصادي المشار إليه سابقاً، وهذا لا تخوض فيه هذه السطور، فموضوعها الرئيسي عن تجاهل المدافعين الحقيقيين عن حقوق شعوب المنطقة بل والعالم نقض الاتفاق ومعارضته، وعن تجاهل معارضي نظام التطهير العرقي والفصل العنصري الصهيوني ومقاوميه أيضاً، الذين تجاهلوا الاتفاق كأنه لم يحدُث، أو كأنه لا يمسّ مبادئهم وقيمهم، ولا يؤثر على المسارين، التحرّري والإنساني.
يتطلب تعزيز ثقافة المقاطعة في المنطقة توحيد المعايير تجاه جميع المطبّعين حتى المتردّدين منهم، أو المواربين، من السودان إلى الأردن ومن لبنان إلى الإمارات، ومن المغرب إلى البحرين، ومن تونس إلى السعودية، فنحن في مرحلة تتسارع فيها الخطوات التطبيعية وتتنوع أشكاله ومبرّراته ومساراته، تتطلب منا توحيد الموقف وتجذيره من جميع تلك المحاولات، بغض النظر عن الجهة التي تقف خلفه.