في المستقبل الاستراتيجي للعراق

28 ابريل 2023
+ الخط -

لم تركّز الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 على مفهوم التخطيط التنموي الشامل المؤسّس على الجانب الاقتصادي المحمي من الفساد، والمؤسّس على بناء رصين من الكفاءات الاقتصادية والمالية ذات الخبرات والسجلات النظيفة والخالية من أي مؤشّرات فساد. ولا يخفى على أحد أن أي تخطيط تنموي شامل لا ينجح من دون قاعدة سياسية وأمنية في العراق الذي لم تتوفر لديه الرغبة الحقيقية لبلوغ هذه الشروط، بسبب انتشار ظواهر المحاصصة الطائفية والسياسية وارتباط قوى متنفّذة كثيرة في هذا البلد بأجندات وأهداف لا تريد له النهوض وتحقيق التنمية المطلوبة.

إذن، هناك عدة عوامل ومظاهر تحول دون تمكين العراق من التركيز على "التخطيط التنموي الشامل". منها غياب القانون الملزم للجميع، واستمرار فوضى السلاح غير المسيطر عليه من قبل الدولة وتأثيراته على الحالة الأمنية بشكل عام، وهجرة الكفاءات والعقول العلمية والإدارية وأصحاب الخبرات، وترك ملفات من دون إجابات أو إجراءات، كملف المغيبين قسرياً، وتمكّن الفساد واستشراؤه في جميع مفاصل الحياة، وتراجع مستويات التعليم والثقافة، وانتشار بيع المخدّرات وتعاطيها، وانتشار الجريمة المنظّمة بكل أشكالها، وتراجع الإنتاج الزراعي والحيواني مع عدم إعادة القاعدة الصناعية التي كان العراق يمتلكها قبل الاحتلال، ثم ملفّات الخدمات في قطاعات الكهرباء والمياه والطرق والمستشفيات والإسكان والبطالة وغيرها.

أثّر كل ما تقدّم، بشكل مباشر وكبير، على كل قواعد الدولة العراقية، وأهمها القاعدة الاقتصادية، فبدّدت الموارد الوطنية وغابت الخطط والبرامج الاقتصادية والتنموية الملموسة. وقد توقع العراق أن تبلغ الإيرادات النفطية خلال العام الحالي (2023) نحو 92.6 مليار دولار، أي 135 تريليون دينار بتقدير متدنٍ عن سقف سعر البرميل، وعند 65 دولارا، وهي إيرادات تزيد عن العام الفائت (2022) التي كانت 75.650 مليار دولار. ولكن كل المظاهر المشار إليها لم تشهد انحساراً أو معالجة، بل استمرّ تبوؤ العراق الدرجات الدنيا في المؤشّرات الصادرة عن منظمات دولية وأممية ومراكز بحوث رصينة. على سبيل المثال، وضعت منظمة السلام الدولي العراق في المرتبة 160 قبل جنوب السودان وأفغانستان، في ما يخص الحالة الأمنية فيه وسيطرة الدولة على كل أرجائها وحماية شعبها. وفي مؤشّر مدركات الفساد (CPI) الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلّ العراق المرتبة 169 من أصل 180 دولة محتلاً المرتبة الأولى في الفساد عربياً.

أدّى عدم الاستقرار السياسي إلى عدم توفر بيئة آمنة ومستقرّة تحفز التنمية وتنعش الاقتصاد

دخل العراق نفق الفوضى بعد أن احتلته الولايات المتحدة وحلفاؤها عام 2003، وجرى إلغاء قواعد البناء السياسي والاقتصادي له من خلال قرارات الحاكم المدني لقوات الاحتلال، بول بريمر، فلم يستطع إيجاد حالة من التكامل بين واجهات أية حكومة لاحقاً، ومردّ ذلك عدم تناغم الأداءين السياسي والاقتصادي على وجه الخصوص، حيث يفترض أن تساهم السياسة العامة للدولة في دعم الاقتصاد المحلي وتحفيزه لزيادة كفاءة أدائه، حتى يلبي الاقتصاد الاحتياجات السياسية. وغالباً، إذا افتقرت السياسة إلى الأهداف الاقتصادية فستكون غير ذات جدوى، وهو ما حصل في العراق؛ حيث أدّى عدم الاستقرار السياسي إلى عدم توفر بيئة آمنة ومستقرّة تحفز التنمية وتنعش الاقتصاد. وكان غياب الاستقرار السياسي سبباً في عدم الثقة بمؤسّسات الدولة، وزيادة مظاهر الفساد وتهريب الأموال إلى خارج العراق وفشل محاولات جذب الاستثمارات الأجنبية. وبالتالي، تراجع مفهوم مؤسّسات الدولة وسيادة القانون، أي انعدام ثقة المستثمرين بما يعنيه من تراجع في معالجة كثير من مشكلات البلد عبر بوابة الاستثمارات وزيادة معدلات البطالة وترك المواطنين في غياهب التردّي المتصاعد لكل أوجه الحياة.

ربطت جميع الحكومات العراقية التي تتابعت بعد عام 2003 سياسة العراق واقتصاده بإيران. وعمّق أغلب رؤساء الوزارات عقدة تعويض إيران عن حربها مع العراق إبّان فترة حكم صدّام حسين من عدة أوجه، شملت الضمانات التي يمكن أن تقدّمها الحكومة العراقية للجانب الإيراني أن حرباً أخرى معها لن تكون من العراق، وهو ما أكّد عليه رئيس مجلس الوزراء العراقي الأسبق حيدر العبادي، في لقاء تلفزيوني معه على إحدى القنوات الفضائية العراقية خلال بضعة أشهر ماضية، مؤكّداً أن "هذا من حقها". ويأتي هذا الحقّ طبعاً من خلال ولوج اللوبي الإيراني في كل مفاصل القرار العراقي، بضمنها الجانبان العسكري والأمني، بما يعني صراحة نقصان سيادة العراق وقراره السياسي والاقتصادي، وهو ما يلمسه كل العراقيين، وأيضاً القوى الدولية والإقليمية، بشكلٍ معمّق ومفصل.

لم ير الشارع العراقي فرقاً في معدّلات البطالة ولم يلمس استهداف هوامير الفساد وإعادة الأموال المنهوبة إلى البلاد

ربما يقول قائل إن الولايات المتحدة كانت تهدف إلى إنشاء ديمقراطية سياسية جدّية في العراق على أنقاض نظام حكم الحزب الواحد والقائد الواحد. ويعني هذا التغيير تحوّل الاقتصاد العراقي من نظام السلطة الحكومية المركزي إلى نظام اقتصاد السوق الحر، لكنها في حقيقة الأمر، وبسبب جهلها بالواقع العراقي الفعلي وعمق التجربة العراقية في إدارة شؤون الدولة منذ تأسيسها عام 1920 حتى 2003، فشلت في كل محاولاتها لترقيع المشهد العراقي، فلا ديمقراطية سياسية حقة ولا اقتصاد حر ولا قيادات تستوعب، هي قبل شعب العراق، ماهية هذا التغيير المنشود وأسلوبه، فكانت حالة من الفوضى وحكومات في العزلة داخل المنطقة الخضراء وثروات بمئات المليارات تُهدر وتدخل حسابات الفاسدين وإيران، ما حطم أي آمال لثقافة الديمقراطية في العراق لدى أبناء شعبه.

جعل اعتماد الموازنات العراقية عوائد النفط مصدرا رئيسيا وأساسيا أوحد عرضةً لمطبّات تغير أسعار النفط بشكل مستمر، ولم تستجب الحكومات العراقية لمناشدات البنك المركزي ضرورة اعتماد مصادر أخرى لعائدات الخزينة، تخفّف من التعويل الكلي على النفط، فما زالت الصناعة العراقية التي كانت أحد مصادر الحكومة قبل الاحتلال تعاني من الإهمال وعدم الإحياء بضغوط من دولة بعينها، وانتهت بشكل شبه كامل الصفة التي صاحبت صفة العراق "بلاد السواد"، أي بلد الزراعة، وتركت الأراضي لتتحوّل إلى مناطق جرداء بسبب شحّ المياه والاستيراد غير المدروس من إيران وتركيا لكل المنتجات الزراعية والحيوانية. وأفضى هذا إلى تأخير أي بوادر لنهضة اقتصادية حقيقية، وتأخير تنفيذ مشاريع إعادة الإعمار وتجديد البنية التحتية للعراق.

يتأتّى مستقبل العراق الاستراتيجي من رؤية علمية واقعية، تنبثق عنها قرارات حازمة ولازمة، منها مكافحة الفساد المالي والإداري

نحن أمام حقائق مرّة في العراق. وحقائق التراجع الحضاري في العراق لا تمحوها أو تغيّرها نجاحه (بمساعدة أميركية وخليجية) في إنجاح بطولة "خليجي 25" في البصرة؛ ذلك أن العراق يعيش على واقع أزمات حقيقية، سياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية وثقافية وصحّية وسواها. وحتى حكومة محمد شياع السوداني، كسابقاتها، لم تقدّم سوى صورة رئيس الوزراء القوي والدقيق في متابعة القضايا المشار إليها في هذا المقال ومعالجتها، لكنه يعلم قبل غيره أن الصعوبة تكمن في اختراق مافيات الفساد التي تمثّل بعض قيادات التحالف الذي أتى به إلى السلطة (الإطار التنسيقي) قمّة هرمه، كما أن الشارع العراقي لم ير فرقاً في معدّلات البطالة ولم يلمس استهداف هوامير الفساد وإعادة الأموال المنهوبة إلى البلاد. ولم يقدّم السوداني أية حلول وخطط عملية ورؤية مستقبلية لتحقيق التقدّم في الدولة على جميع المستويات والقطاعات، ومنها الزراعية التي تمثل اختصاصه المهني، بصفته مهندساً عراقياً، كانت له صفة إدارية قيادية في دائرة زراعة ميسان (العمارة) قبل الاحتلال.

يتأتّى مستقبل العراق الاستراتيجي من رؤية علمية واقعية، تنبثق عنها قرارات حازمة ولازمة، منها مكافحة الفساد المالي والإداري السائد في جميع مفاصل الدولة وبضمنها التشريعية والقضائية، وإنشاء مجلس اقتصادي مستقلّ عن أي تدخّل سياسي أو قضائي يتولى صياغة السياسات الاقتصادية وبرامج التنمية الاقتصادية وتنفيذها، وفصل القرار السياسي للعراق عن أي توجّه يرتبط بفتاوى دينية أو مذهبية أو عرقية، والعمل على تعزيز إنشاء نظام ديمقراطي متوازن ودستوري من خلال حكومة مدنية وطنية تتمتّع بالاختصاص والنزاهة، وإنهاء مظاهر التسلح غير القانوني والمليشيات والاعتقال غير القانوني والتغييب القسري وإعادة النازحين إلى مناطقهم، دعوة العراقيين المهاجرين، وخصوصا أصحاب الكفاءات العلمية، للعودة مع ضمان حمايتهم من عمليات الاستهداف والقتل المنظّم، وإعادة إحياء دور القطاع الخاص في التنمية العراقية، وتعزيز الحركة التجارية والاستثمار بين العراق ودول العالم وبخاصة دول الجوار، وجعل ملف قطاع السياحة الدينية في العراق بيد الدولة فقط، كونه مصدراً مهماً من مصادر الدخل العراقي، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني والشفافية وحقوق الإنسان وسواها، المحلية والدولية، وإيلاء الزراعة والصناعة اهتماماً خاصاً وتعزيز ثقة المستثمرين بضمانة حماية أموالهم وممتلكاتهم من الدولة، وإعادة الاهتمام والتركيز على مخرجات التعليم في المراحل التعليمية كافة، ورفع كل ما شابها من مضامين طائفية شعوبية تكرّس الأفكار المفُرِقة بين أبناء الشعب الواحد، الاهتمام بالاستثمار خارج العراق من خلال فائض عائدات النفط وتشكيل وزارة أو هيئة تُعنى بهذا الجانب، تعزيز دور هيئة الرقابة المالية (كما شأنها قبل 2003) لضبط إيقاع النزاهة وعدم تسييب المال العام من إدارات الدولة ومنتسبيها، تثبيت علاقة متوازنة ووطنية مع إقليم كردستان تمنح حكومة الإقليم وشعبه الأمان والقدرة على تطوير الإقليم من دون التحسّب من تقلبات الساسة في بغداد، إنهاء دور المليشيات، ومنها طبعاً الحشد الشعبي، وتنقية القوات المسلحة والأمنية العراقية من التوجّهات السياسية والطائفية، لتكون هذه القوات ذات ولاء مطلق للعراق ومؤسّساته الديمقراطية، وأخيراً التقييد الأخلاقي والسياسي والاجتماعي للقوى السياسية الموجودة في العراق، بما يضمن عدم وجود أحزاب وقوى سياسية ذات غطاء ديني أو عرقي أو عنصري داخل المنظومة السياسية في البلاد، وأن يكون الشعب فعلاً مصدر السلطات وليست تلك الأحزاب الممنهجة.

F51601CD-AABE-44C5-B957-606753EEC195
فارس الخطاب

كاتب عراقي مقيم في لندن