في الفصل بين النظام وجيشه
للجيوش أدوار محدّدة، فإذا تجاوزتها فإن الخطر الأهم يكون على الجيوش ذاتها، وخصوصا في الدول التي يغيب فيها الحد الأدنى من حكم القانون. ولهذه المسألة أبعاد كثيرة، كانشغال العسكريين بالتجارة والصناعة على حساب الشأن العسكري، أو امتداد الفساد إلى الجيش مع امتداد الجيش إلى السياسة، أو عسكرة المجتمع وضرب قواه المدنية، أو زجّ الجيش في صراع سياسي ضد خصم داخلي أو المغامرة به خارجيا، أو ربط الجيوش بمصير الطبقة الحاكمة والسيطرة عليها، ولهذا كله تداعياته السلبية على الجيوش. وتنشغل هذه المقالة بسيطرة الأنظمة على الجيوش، فالحكم في كثير من دولنا العربية فردي شبه وراثي، لا يفصل بين الدولة والنظام والجيش، ويسيطر على الجيوش ويستخدمها كما يسيطر على بقية مؤسسات المجتمع والدولة.
كانت لدينا قبل عدة سنوات جيوش موحدة، بشكل أو بآخر، في العراق واليمن وسورية وليبيا، واليوم تكاد الدولة تختفي هناك، هذا بخلاف الانقسامات المجتمعية والاحتراب الأهلي. واليوم لدينا في مصر والجزائر والسودان وموريتانيا جيوش مسيسة منذ عقود، لكنها موحّدة. والغاية اليوم هي في الحفاظ عليها موحّدة، بل وتقويتها وتعزيز قدراتها، مع تخليصها من براثن السياسة حتى تقوم بأدوارها الحقيقية في حماية دولها من أي عدوان خارجي، بينما يدير المدنيون الشأن العام عبر مؤسّسات منتخبة شعبياً، ويمكن مراقبتها ومحاسبتها، وتقدّم مصالح شعوبها على مصالح القوى النافذة. هذه غاية رئيسية لا مفرّ من التفكير في كيفية تحقيقها.
لم تشهد هذه الدول الأربع، ولا غيرها من الأنظمة الجمهورية الأخرى، الحكم العسكري المباشر إلّا لفترات قصيرة، وهو النمط الذي شاع في أميركا اللاتينية، وتتولى فيه عصبة من الجنرالات الحكم للحفاظ على مصالح المؤسسة العسكرية ومواجهة ما تعتبره خطراً وجودياً (الخطر الشيوعي آنذاك)، كما حدث في الأرجنتين (1976 - 1983)، والبرازيل (1930 - 1945 و1964 - 1985)، والبيرو (1968 - 1980). وفي بعض هذه الحالات، كان العسكريون أنفسهم يتداولون على منصب الرئيس.
الجيوش في الأنظمة الفردية مصدر الخطر الأول الذي يهدّد بقاءها. ولهذا تسيطر الأنظمة، للبقاء في السلطة، على مؤسسات الأمن والدفاع
في حالاتنا العربية، حَدَثَ الأسوأ، فمعظم العسكريين الذين أتوا بانقلابات عسكرية نجحوا في إقصاء رفاقهم والانفراد بالسلطة ثم السيطرة على الجيوش واستخدامها في الهيمنة في ظل نظم حكم فردية وشبه وراثية، كما في سورية ومصر وليبيا واليمن والعراق والسودان والجزائر بدرجاتٍ مختلفة. وتنفرد الجزائر منذ التسعينيات في أنّ الجيش صار يقدّم مدنيين للرئاسة مع بقائه القوة الضاربة في معادلة الحكم. وهذا النمط من الحكم أسوأ من حكم العصبة العسكرية، لأنّ أضراره أكثر تدميراً، وعادة لا يتغير إلا عبر الانتفاضات والثورات الشعبية أو عمليات العصيان المسلح، الأمر الذي يؤدّي، في الغالب، إلى انقسام الجيوش واندلاع الحروب الأهلية، والتي عادة ما تنتهي ليس إلى نظام ديمقراطي، وإنما إلى أنظمة ضعيفة، هذا بخلاف أنّ بعضها قد يعاني من التدخّلات الخارجية أو الانفصال. والأمثلة تضم الصومال 1991 ونيجيريا 1967 وأوغندا 1987 وبوروندي ورواندا في التسعينيات والسودان منذ الخمسينيات.
وهذا ما حدث في الدول العربية عام 2011، فقد كانت هناك أنظمة حكم فردية شبه وراثية، لم تتغيّر إلا بانتفاضات شعبية، ثم انتهى بها المطاف إلى انقسام الجيوش واندلاع الصراعات والحروب في ليبيا وسورية واليمن. وفي كل هذه الحالات، طاولت التداعيات الجميع. انهارت الدول ومؤسّساتها وجيوشها، بل وتكاد تخسر سيادتها جرّاء أنماط التدخل الخارجي المختلفة التي تشهدها. وفي مصر، أسقط المسار الديمقراطي الذي رسمه المجلس العسكري بالقوة المسلحة المدعومة من الخارج، ووحدها تونس التي نجت عقداً لتتم إطاحة نظامها الديمقراطي الوليد عبر انقلاب رئيس منتخب مدعوم من قوات الأمن (وربما أيضاً من الجيش والخارج).
الجيوش في هذه الأنظمة الفردية مصدر الخطر الأول الذي يُهدّد بقاءها. ولهذا تسيطر الأنظمة، ضمن استراتيجياتها للبقاء في السلطة، على مؤسّسات الأمن والدفاع عبر أدوات عديدة، أهمها سياسة الترهيب والترغيب أو العصا والجزرة. ومع هذا، لا يمكن لأي نظام أن يقمع كل المنتمين إلى هذه المؤسسات، ولا أن يشتري ولاء كلّ المنتسبين إليها. أي يظل الجسم الكبير من هذه المؤسسات يعاني من تداعيات هذا الحكم، مثله مثل بقية فئات الشعب. وفي تجارب تشيلي وإسبانيا وكوريا الجنوبية أمثلة مختلفة عديدة عن القضايا التي كانت تمسّ المؤسّسة العسكرية والعسكريين في المستويات الأدنى، والتي لم تجد حلولاً إلّا بعد الانتقال إلى الديمقراطية وخروج الجيوش من السلطة.
معاداة كلّ القوى والمؤسسات التي يسيطر عليها المستبدّون تصبّ، في واقع الأمر، في مصلحة النظام، وتقوي تحالفاته الداخلية
كسْر هذه المعادلة السيئة أمرٌ غير مستحيل، فالجيوش الوطنية في مصر والجزائر والسودان وموريتانيا تمثل مجتمعاتها بشكل أو بآخر، ولا تعاني من مشكلة حادّة، طائفية أو مذهبية أو دينية أو عرقية، وتستند إلى إرثٍ عسكري جيد تحتفظ به الأجيال، مستمدٍّ من معارك الاستقلال ضد المستعمر أو من حروب الصراع العربي الصهيوني. مع ملاحظة أنّ حالة السودان تشهد أيضاً جماعاتٍ مسلحة خارج القوات المسلحة الرسمية.
ويظل الوعي بطبيعة الحكم الفردي أول الطريق للوصول إلى الغاية المشار إليها سابقا، ولن يتأتّى هذا إلا بفهم آليات السيطرة والتحكّم داخل هذه الأنظمة المدعومة من القيادات الأمنية والعسكرية التابعة لها، وفهم المصالح المتبادلة بينها، وآليات التحكّم في المستويات الوسطى والأدنى داخل هذه المؤسّسات، وفهم المصالح التي تربطها بالخارج في الإقليم والعالم.
أما معاداة كلّ القوى والمؤسسات التي يسيطر عليها المستبدّون فتصبّ، في واقع الأمر، في مصلحة النظام، وتقوي تحالفاته الداخلية، وتجعل من بقاء النظام مصلحةً لتلك القوى والمؤسسات. كان المطلوب في الحالات المشابهة هو العكس تماماً، فتعديل ميزان القوة (المختلّ لصالح المستبدّين) يتطلب كسب الأنصار داخل النظام الحاكم (أو على الأقل تحييدهم) من أجل إضعاف تحالفاته، ومن ثم دفعه دفعاً إلى التنازل والقبول بعملية انتقال سلمي للسلطة أو إسقاطه شرعيته بالكامل، ومن ثم الشروع في بناء جديد للسلطة.
وبشكل عام، تفقد الأنظمة المستبدّة شرعيتها وتتغير نتيجة عوامل كثيرة، منها ضعف أو انهيار تحالفاتها التي تربطها بالقوى الداعمة لها، ومن ثم إصلاح الخلل في ميزان القوة بين الأنظمة ومعارضيها، فضعف الاتحاد السوفييتي ساهم في إضعاف شرعية نظم أوروبا الشرقية، ووقوف قائد الجيش مع الجماهير في الفيليبين في منتصف الثمانينيات كان عاملاً مؤثراً في إسقاط ماركوس، وظهور فريق من الإصلاحيين داخل العصبة العسكرية الحاكمة في البرازيل ساهم في نجاح الانتقال الديمقراطي، وخوف فئات من رجال الأعمال على مصالحهم، جرّاء استمرار نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ساهم في انفتاح النظام ومن ثم تغييره.