في الذكرى الأولى لمقتل مهسا أميني
بعد عام على مقتل الشابة الإيرانية مهسا أميني بعد تعذيبها على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، توجس النظام في طهران من عودة الاحتجاجات في 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، ذكرى وفاتها. ومع أن مهسا كانت تضع الحجاب في ذلك اليوم، إلا أنها اعتُقلت لأن الشرطة اعتبرت أنه لم يوضع بالطريقة المناسبة. وإذا كانت إلزامية الحجاب مثار جدل واسع في إيران قبل مقتل الشابة، فذلك لا يشكّك بإيمان النساء اللواتي لا يلتزمن به. بل يعتبر كثيرون ممن شملتهم استطلاعات عديدة أن ارتداء الحجاب من عدمه يجب ألا يخضع للقوانين الإلزامية كتجاوز إشارة مرور حمراء، فهو كغيره من الشعائر الدينية يمكن القيام به أو لا. ومن حيث المبدأ "لا إكراه في الدين". لكن ما تشهده إيران من تسييس مفرط للدين في الحياة العامة والخاصة (ومن ضمنها إلزامية الحجاب) تدفع قطاعات واسعة في المجتمع الإيراني إلى النفور من الدين والابتعاد عن ممارسة الشعائر الأكثر أهمية، بحسب استطلاع أجراه معهد "آي أس بّي أ"، كفريضة الصيام .إذ في استطلاع أجراه عام 2020، تبين أن 47,4% من سكّان طهران لا يلتزمون بأداء صيام رمضان. وأعلن أن التراجع في الممارسات الدينية تتجلّى بشكل خاص في عدم الالتزام بقواعد اللباس الإسلامي، لا سيما ارتداء الحجاب الإلزامي للنساء، وانخفاض الحضور في المساجد للصلاة، كما التراجع في مكانة رجال الدين لدى المجتمع الإيراني الذين بات معظمهم يحظى بامتيازاتٍ يمنحها لهم النظام الإسلامي في إيران. ناهيكم عن الفساد المستشري في أوساط الطبقة الحاكمة والحرس الثوري.
إذاً، كانت الاحتجاجات على مقتل مهسا أميني، منذ البداية، تنخرط في المعارضة السياسية والثقافية والاجتماعية لنظام ولاية الفقيه المكبّل بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، ورفضا للظلم الذي يعانيه الشعب بكل أطيافه، لا سيما النساء. وأهمية الاحتجاجات في إيران على مقتل مهسا أميني أنها تنضوي تحت مظلة النضالات النسوية في العالم لمواجهة استمرار استعباد النساء، حتى في أكثر الأنظمة الديمقراطية في الغرب، التي تشهد صعود اليمين المتطرّف والأحزاب الفاشية، إن في فرنسا أو في إيطاليا، بل حتى في الفوز الساحق لليمين الفاشي في النرويج أخيرا. وإن ربط الرغبة في الحياة بالحرية وقضية النساء الذي تجسّد في الشعار "امرأة، حياة، حرية"، الذي استخدم في أثناء الاحتجاجات في مختلف المدن الإيرانية، تحوّل إلى شعار ترفعه احتجاجات اندلعت في العالم، ربطت بدورها بين المظالم التي تعم العالم على خلفية الأزمة الاقتصادية العالمية وهروب الرأسمالية وقوى الطغيان المحلية والدولية منها عبر استهداف أكثر الفئات المهمشة بطغيانها. ورُفعت فيها جنبا إلى جنب شعارات من مثل" حياة السود مهمة" و"الحرية لفلسطين" ليس فقط بتظاهرات التأييد للشعب الإيراني برفع شعار"امرأة، حياة، حرية"، بل في الملاعب والمدارس والجامعات عبر العالم، كما حدث في قطر في أثناء مباريات كأس العالم على سبيل المثال. وتحوّلت قضية تحرّر المرأة إلى محرّك أساس للاحتجاجات الشعبية على مستوى العالم، وتحوّلت معها مهسا أميني إلى أيقونة ضد الظلم والاستعباد، وليس بوصفها قضية وجودية للبشرية جمعاء فقط، بل بوصفها أيضا قضية سياسية التفّ حولها أحرار العالم، سواء في النظم الاستبدادية أو في الديمقراطيات الزائفة التي تأخذ مجتمعاتها إلى مصير قاتم لقضايا ذات طابع وجودي محلي وعالمي. لا تبدأ بتصاعد نسب البطالة وتردّي مستويات المعيشة وتصاعد مخاطر التغير المناخي من زلازل وفيضانات وجفاف، بل في التهديدات النووية الداهمة، كما انتشار الأوبئة وتصاعد التمييز العنصري ضد السود والمهاجرين والفلسطينيين، كما تصاعد التمييز ضد النساء، جديدها أخيرا على سبيل المثال إلغاء الحق بالإجهاض في ولايات أميركية عديدة. ومع تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، والتي تصل إلى حد جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية مع صعود اليمين الديني والقومي الأكثر تطرّفا في تاريخ الكيان الصهيوني، بوصفه نظام أبارتهايد يهدّد بنموذجه العنصري مبادئ السلم والعدل الدوليين. وكلها وغيرها مما تعجز هذه المقالة عن تعداده أو ذكره، هنالك مستقبل قاتم يتهدّد البشرية، ويضع المجتمعات والأفراد في حال من اليأس والقلق والاضطراب وخيبة الأمل، تترابط وتتقاطع فيها المخاطر الوجودية على مستقبل البشر، ولا تبدو في الأفق حلولٌ قريبة لتلافيها. وبهذا المعنى، شكلت الاحتجاجات على مقتل مهسا أميني، التي قادتها النساء رفضا لإلزامية الحجاب، منعطفا تاريخيا يهدّد استمرارية النظام الإسلامي في إيران (وكل نظام مستبد)، تزامناً مع انتهاكات كثيرة يرتكبها نظام ولاية الفقيه بحق شعوب العراق وسورية واليمن ولبنان، وليس بحق الشعب الإيراني وحده.
ستبقى الاحتجاجات على مقتل مهسا أميني التي قادتها بشجاعة نساء إيران علامة فارقة في التاريخ الإيراني والإنساني
ومع اقتراب الذكرى السنوية لمقتل مهسا أميني، اعتقلت السلطات في إيران خالها وعديدين من أهالي ضحايا الاحتجاجات في تدبير وقائي. فضلا عن اتخاذ تدابير أمنية مشددة في كردستان إيران، مسقط رأس مهسا أميني، وفي محيط قبرها. جنبا إلى جنب مع حملات خطف واعتقالات واسعة في صفوف الناشطات والناشطين وإغلاق شركات تعمل فيها نساء لا يمتثلن لقواعد الحجاب الإلزامي، مع تراجع حدّة الاحتجاجات في الأشهر القليلة الماضية إثر القمع الذي أدى إلى اعتقال الآلاف، فقد استمرّت الإجراءات القمعية ضد النساء والطلبة وأساتذة المدارس والجامعات من طرد واعتقالات مكثفة، لكبح أي محاولات جديدة للاحتجاج على خلفية اقتراب الذكرى السنوية الأولى لمقتل أميني. وقد لوحظ، بحسب ناشطين حقوقيين، تعمّد السلطات منذ أسابيع قطع شبكة الانترنت، لا سيما مع استمرار العصيان الذي تشهده المدن الإيرانية الكبرى، في تصاعد نسبة رفض النساء الامتثال لقواعد الحجاب الصارمة، والذي يبدو أنه لن يتوقف عند حدود زعزعة استقرار النظام، بل قد يصل إلى تهديد وجوده بحسب مراقبين عديدين. وإن صبرت النساء طويلا على الظلم وامتهان الكرامة الإنسانية التي يمارسها النظام الإسلامي عليهن في إيران، يبدو أن هذا الصبر قد نفد، ولا طاقة لهن بعد على الاحتمال. فالشرارة التي أشعلتها مهسا أميني حين قُتلت لم تنطفئ بعد على ما يبدو. وهو ما يفسّر الخوف الذي يعتري النظام، حين يكثف نشر نقاط التفتيش في طول البلاد وعرضها مع اقتراب الذكرى السنوية لمقتلها، لا سيما أن الاحتجاجات تفاعلت مع الأزمات المعيشية والاجتماعية، وتحوّلت إلى حراك دائم معلن وخفي، وإن كان لا يبدو في الأفق حسم وشيك لأيّ من طرفي النزاع. ولا يزال النظام يتشدّد في قمعه الاحتجاجات الشعبية، خصوصا التي تقودها النساء، لما لها من قوّة استفزاز تتجلى بالشجاعة النادرة التي تحلين بها وما زلن في رفض إلزامية الحجاب، حتى من النساء اللواتي ما زلن يرتدينه.
لا شيء تغير في سلوك النظام سوى تصاعد حدّة القمع والتنكيل. وبغض النظر عن هذا، ستبقى الاحتجاجات على مقتل مهسا أميني، التي قادتها بشجاعة نساء إيران، علامة فارقة في التاريخ الإيراني والإنساني، بل وستشكل منعطفا تاريخيا ونقطة تحوّل في النضالات المتواصلة لتحرّر المرأة شرطاً أساسياً للتحرر من كل موبقات الاستبداد والعنصرية والتمييز. ليس بوصفها قضية سياسية بامتياز فقط، بل في أنها قضية وجودية للمجتمعات كافة، أيا كانت قضيتها. بل ستشكل الحلقة المركزية والرافعة الأقوى للنضالات في العالم، أيا كانت طبيعتها أو أهدافها، وهذا ما أثبتته مشاركتهن الفعالة في جميع الاحتجاجات، فالاحتجاجات على مقتل مهسا أميني هي بداية البداية للتضامن العالمي ضد الظلم والعبودية والفاشيات الصاعدة العنصرية، أكان مصدرها دينيا أم رأسماليا أم كولونياليا، فما قبل مقتل مهسا أميني ليس كما بعده. إذ ثمّة ثمن يجب أن يُدفع من أجل كل هذه المظالم التي تعبث بحياة الشعوب من شمال كوكب الأرض إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، كي نكون أو لا نكون.