في الحاجة إلى طه حسين

02 نوفمبر 2014

طه حسين (1889 - 1973)

+ الخط -

لا تزيّد في الزعم إن المطرح الذي أقام فيه طه حسين في الثقافة العربية ما زال على إنارته الضافية، وباقٍ فيه وهجٌ خاص يشعّه. ولا شطط في الذهاب إلى أن الحالة التي مثّلها الرجل في زمانه، (أو أزمنته ربما)، ما زالت فريدة، ليس بالنظر إلى أنه كان ما كان، وأَعطى ما أعطى، ورمى ما رمى من حجارةٍ ثقيلة في غير اتجاه، وهو بلا نعمة البصر، بل، أيضاً، لأن الذي يجري في الراهن العربي يستثير حاجةً شديدة الإلحاح لدماغ طه حسين وجسارته، بل ولمناوراته وتراجعاته، الموضعية منها والاستراتيجية، أيضاً. وإذ اشتبك سياسياً، ومن مواقع حزبية أحياناً، مع قوى وازنة في مصر الملكية، غير مرة، (مع الوفديين مثلاً)، وإذ تولى وزارة المعارف، وإذ استقال من عمادة الجامعة احتجاجاً على قرار سياسي منح الدكتوراه الفخرية لبعض أهل النفوذ، فذلك كله، وغيره، يبيح تصنيف صاحب (الأيام) مثقفاً عضوياً بجدارة. ونحسب أن من هم على سمته، من حيث عدم الاطمئنان المجاني لأي قناعةٍ قارّة، ومن حيث مزاولته الحرية فيما كان يكتب ويقول (ويرى)، صاروا أقل من القليل في زمننا الذي لا يتيسر التعليم فيه للمواطن العربي، كما الماء والهواء، على ما طالب الكاتب الرائد في صيحةٍ خالدة، قبل أزيد من سبعين عاماً.
ليس استدعاء طه حسين، هنا، بمناسبة ذكرى رحيله الأسبوع الماضي، (1889-1973)، بل، أيضاً، لأن الاشتغال العلمي (والنقدي) على منجزه ما زال على وتيرته. إذ يُصدر "الأزهر"، مع العدد الجديد من مجلته، قبل أيام، كتاباً يضم مختاراتٍ من تراثه، مع دراسةٍ أعدّها محمد عمارة. وقد نشر فهمي هويدي مقالةً أضاءت على الدراسة، من شديد العجب أن بعض أهل النكاية رأوا فيما كتبه هويدي محاولةً لإدراج طه حسين في منظومة "الإخوان المسلمين". لا لشيء إلا لأنه أحال إلى اجتهاد عمارة أن الراحل الكبير، في محطةٍ رابعةٍ أخيرة فكرية له، انحاز إلى العروبة والإسلام، وأدى في غضونها العمرة. وأن يظلَّ إرث طه حسين في نحو 55 كتاباً موضع سجال وبحث، ونقد وانتقاد، بعد 41 عاماً على وفاته، فذلك يضاعف الوجاهة في قناعة صاحب هذه السطور بأن الحاجة إلى طه حسين ماسّة جداً، في راهن النكوص الحادث بين ظهرانينا إلى الخرافات والمسلمات، وإلى تفسيراتٍ مغلقة للتراث الإسلامي. وإذا ما استطاب بعضهم التجريح في طه حسين، لبعض الأسباب إياها، فإن التذكير واجبٌ بأن الإجادة الرفيعة في كتابته (على هامش السيرة) و(الوعد الحق)، مثلاً، درسٌ مفيد للتعلم، ولمعرفة الإسلام والمسلمين. وإذ نحن في أتون اشتباكٍ مذهبي مقيت، يرفع فيه سنةٌ وشيعةٌ أسلحةً ورايات كالحةً ضد بعضهما، مفيدٌ أن يُشار، هنا، إلى صنيعٍ لافتٍ أحدثه طه حسين في جزأي كتابه (الفتنة الكبرى)، وإنْ لا تبخس هذه الإشارة من تميز جهد هشام جعيط في هذا الباب.
بهر الغرب طه حسين وصدَمه، لكنه حفر في التراث العربي كثيراً، واجتهد مشككاً وقلقاً، وترجم، وتآخى مع المعرّي، وسرد الحكاية والقصة، وانقطع إلى المعرفة، والقيمة الأوضح في مدونته الثرية احترامه العقل واتصافه بالشجاعة وصدوره في أفكاره عن ثقافةٍ عميقة. كان بالغ الجدية في تحذيره من انصراف الشباب عن القراءة، إلى (اللهو) بالاستماع إلى الراديو (لو عاش إلى زمن الآيباد؟). لم يقنعنا، أنور الجندي وعبد المجيد المحتسب وأترابهما ممن رموا طه حسين بالاتهامات إياها، عن ماسونيته وإلحاده وإسرائيليته (أبرق مهنئاً بافتتاح الجامعة العبرية). ربما لأنهم كانوا عمياً عن العميق الجوهري في بصيرة طه حسين، وقد بنى عمارةً مهابةً في الثقافة العربية، لا يقيم فيها، الآن، إلا قليلون من المثقفين الشجعان.


دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.