في التوتر بين باكو وطهران
من المفارقات الجيوبوليتيكية في المنطقة أنّ إيران التي تعرّف نفسها دولة شيعية، وتتخذ من نفسها حامية للشيعة في العالم، لا تمتلك علاقات طيبة مع جارتها أذربيجان ذات الغالبية الشيعية. يؤكد ذلك أن مسألة الشراكة العقدية ليست المحدّد الأهم للعلاقات الإيرانية الخارجية، كما يتصور المرء، وهو يرى إيران وهي تجتهد في تعزيز وجودها عبر نشر مذهبها.
على الرغم من الترابط التاريخي والجغرافي والشعبي، إلا أن التوتر السياسي التاريخي بين البلدين لا يكاد يخفى، ولعل جديد فصوله كان إبّان الحرب مع أرمينيا العام الماضي، ودعمت فيها تركيا، السنّية، أذربيجان بقوة في مقابل أرمينيا التي كانت إيران على الدوام تقف إلى صفها في نزاعها مع جارتها.
كانت العلاقة مع أرمينيا مهمة بالنسبة لإيران التي اتّخذت جارتها المسيحية حليفا، تارة ضد تركيا التي تتمتع علاقتها بأرمينيا بحساسياتٍ كثيرة، وتارة ضد أذربيجان. وقد أخذت هذه العلاقة منحىً استراتيجياً تكاملياً مع تزايد العزلة الإيرانية، وتخلي الغرب بشكل واضح عن أرمينيا ليتشبث كل طرفٍ بعلاقته بالآخر.
تعتبر إيران أن التمدّد الإسرائيلي، سواء في أذربيجان أو كردستان العراقية أو في المحيط العربي المجاور إنما يتم على حسابها
على الجانب الآخر، وعلى الرغم من التشابك والارتباط، فإن العلاقة السياسية بين باكو وطهران كانت تحفّها الشكوك. نالت أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفييتي في العام 1991. حينها كانت إيران قد أضحت "الجمهورية الإسلامية" التي تعتمد النموذج السياسي الفريد من نوعه لعقيدة الولي الفقيه. في مقابل ذلك، كانت أذربيجان، وما تزال، دولةً علمانية ترسّخت فيها هذه العلمانية إلى درجة أنها تجاوزت البناء السياسي الفوقي، لتستقر في وجدان الناس. بهذا الشأن، تخبر إحصائية حديثة لمعهد غالوب أن 21% فقط من الأذريين يرون الدين مهما في حياتهم. وتوضح هذه النتيجة أن البضاعة الدينية والعقدية التي تحترف إيران تسويقها عبر الدعاية المذهبية لا يمكن أن تجد رواجاً لدى الشعب الأذري الذي لا يرى أن في تشابه المذاهب أو اختلافها سبباً لتعميق العلاقة مع إيران، لمجرّد كونها شيعية، أو لتسطيح العلاقة مع غيرها لكونها سنّية، بل ذهبت باكو إلى أبعد من ذلك، حين اتخذت قرار الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع تل أبيب أيضاً.
يمكن أن نفهم موقف أذربيجان المحايد في القضية الفلسطينية، إذا تذكّرنا أن ذلك كان الموقف التركي نفسه إبّان صعود العلمانية بنسختها المتشدّدة، والتي كانت تهدف إلى إكمال الانفصال عن الهوية الإسلامية وعن المحيط الشرقي. في ظل المناخ السياسي الأذري، كانت خطوة الشراكة مع الكيان الصهيوني متسقةً مع التوجه العام (زيارة شيمون بيريس، باكو في 2009، على سبيل المثال، لم تلق اعتراضاً داخلياً يذكر). لم يكن السياسيون يجدون صعوبةً في تسويق هذه العلاقة التي كانوا يرونها مفيدة للطرفين، وفق معادلة النفط مقابل السلاح النوعي الذي تدخل من ضمنه الطائرات من دون طيار. واستفادت إسرائيل من أذربيجان التي منحتها موطئ قدم في موقع استراتيجي.
المسألة بالنسبة لإيران أخطر من مجرّد خيارات وطنية لجيرانها، فهي تعتبر أن كل هذا التمدّد الإسرائيلي، سواء في أذربيجان أو كردستان العراقية أو في المحيط العربي المجاور إنما يتم على حسابها، ويدلّ على تحالفات تجعل منها هدفاً. إيران التي لا تملّ من ادّعاء أنّ وجودها ووجود المليشيات المرتبطة بها في سورية إنّما كان لمواجهة الكيان الصهيوني وعملائه، ويصعب عليها تقبل وجود علاقاتٍ قد ترقى إلى التعاون العسكري مع ذلك الكيان بالقرب من "حدوده"، وهي لا تتردّد في التصريح بقدرتها على التدخل، إذا ما أحسّت بالخطر.
الاستعانة بالتاريخ مهمة، لأنها تذكّر بحقيقة أنه لا توجد مواقف سياسية ثابتة، فكما تبدّلت مواقف بعض الدول من القضية الفلسطينية، في مقدمها تركيا التي كانت تبدو للعرب، في وقتٍ ما، وكأنها متضامنة مع الاحتلال، فكذلك مجمل الوضع الإقليمي قابل للتغير.
العلاقة مع طهران شائكة في ظل خوف الأذريين من أن يحاول الإيرانيون "تصدير الثورة" بشكلٍ قد يؤدّي إلى تخريب الواقع السياسي والأمني في البلاد
وعلى ذكر الوجود الأذري في إيران، والذي يتم الاستشهاد به للتأكيد على التنوّع الإيراني، يجب أن نتذكّر أيضاً أن هذه القومية التي تعتبر الأكبر، ربما لا تكون راضية تماما عن البقاء ضمن الدولة الإيرانية، فقد سبق لها خوض تجربة انفصال هشّة في العام 1945 لم تصمد أمام الدعم الأميركي، الحليف آنذاك، للجيش الإيراني.
نحن اليوم أمام تركيا جديدة، ليست معادية على طريقة إيران الدعائية للكيان الصهيوني، لكنها إحدى أهم الدول الداعمة للحق الفلسطيني. تركيا الجديدة، وإنْ لا تزال راغبة في الانفتاح على أوروبا، إلا أنها تبدو أكثر رغبةً في الاندماج مع محيطها الإسلامي، وهي بذلك تسعى إلى التواصل مع الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عبر إيران طريقا وسطا، لكن أيضاً عبر أذربيجان. الفرق هنا أن التفاهم مع الأخيرة يبدو أسهل. هذا ما جعل العلاقة بين كل من أنقرة وباكو تصل إلى مراحل متقدّمة، وصولًا إلى اتفاق شوشا الذي تلتزم بموجبه تركيا بالدفاع عن أذربيجان إزاء أي تهديد. هذا جانب آخر من جوانب التنافس الإقليمي الذي لا يستهان به، ويجعل إيران غير راضية عن الشراكة الناشئة بين أنقرة وباكو، والتي تستفيد منها الأخيرة في عدة نواح اقتصادية، أهمها إمكانية نقل الغاز إلى تركيا ومنها إلى أوروبا.
يزداد القلق الإيراني من تحوّل هذه الشراكة الثنائية إلى شراكة وتكامل ثلاثي يضم باكستان، وهو ما تتعامل معه إيران بوصفه تهديدا جادّا، خصوصا بعد "إعلان إسلام أباد" في بداية العام الجاري (2021)، والذي دشّن مرحلة متقدّمة من التنسيق السياسي والاقتصادي والأمني بين الدول الثلاث.
تعيش أذربيجان اللحظة التاريخية التي كانت تعيشها تركيا سابقاً، وتختلط فيها الوطنية والقومية مع العلمانية
لتفسير التقارب مع الأتراك، يمكن القول إن أذربيجان تعيش اللحظة التاريخية التي كانت تعيشها تركيا سابقاً، وتختلط فيها الوطنية والقومية مع العلمانية. تتشارك باكو مع أنقرة في الهوية القومية والتقارب اللغوي، في حين لا يجمعها مع طهران سوى العقيدة التي لا تمثل معياراً أساسياً. إضافة إلى ذلك، العلاقة مع طهران شائكة في ظل خوف الأذريين من أن يحاول الإيرانيون "تصدير الثورة" بشكلٍ قد يؤدّي إلى تخريب الواقع السياسي والأمني في البلاد، خصوصا مع تسريباتٍ بولادة مليشيا حديثة وسرّية تحت اسم "حسينيون".
يمكن القول إنّ التخوّف من الجانبين، فإيران أيضاً تخشى أن يكون نموذج أذربيجان، بلدا مزدهرا اقتصادياً، صديقا للغرب وذا علاقات جيدة مع أغلب الأطراف، جاذباً للمواطنين الإيرانيين الذين تزايد تذمرهم خلال السنوات الأخيرة من السياسات الحكومية التي جعلت بلدهم محاصراً. ويشمل هذا التذمر بالضرورة القومية الأذرية التي قد تفكّر مجدّدًا في الخروج من هذا المستنقع عبر الانفصال.
كل ما سبق مهم ولا غنى عنه، لفهم التوترات الحالية بين الدولتين الجارتين، والتي تصاعدت بوتيرة مطردة، من نتائجها إغلاق الأجواء الإيرانية أمام الطائرات الأذرية ومظاهر التحشيد العسكري والمناورات الحدودية بين الطرفين، إضافة إلى حرب التصريحات وإجراءات أخرى ذات دلالة، كإيقاف عمل مكتب ممثل الثورة الإيرانية في باكو، وإغلاق الحسينية التابعة له. جديد مراحل الحروب اللفظية تصريح الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، إبّان مداخلته في اجتماعات رابطة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفييتي الجمعة الماضية، حين اتهم كلاً من أرمينيا وإيران باستخدام إقليم كاراباخ، المحرّر حديثاً، ثلاثين عامًا في تهريب المخدّرات إلى القارّة الأوروبية.