في التنافس التركي الإيراني جنوب القوقاز
مع اقتراب اكتمال عام على النصر الذي حققته أذربيجان ضد أرمينيا في إقليم ناغورنو كاراباخ، لا تبدو منطقة جنوب القوقاز مهيأة بعد للدخول في مرحلة استقرار طويلة الأمد. نجح اتفاق السلام الذي رعته تركيا وروسيا في إنهاء الحرب بين البلدين، وفتح للمرة الأولى آفاقاً أمام إمكانية إبرام اتفاق سلام شامل بين باكو ويريفان، لكنّه لم يُعالج سوى العوامل المحلية لهذا الصراع، متجاهلاً العوامل الخارجية المؤثرة فيه. ثلاث دول إقليمية منخرطة في القضية، روسيا وإيران وتركيا. وبينما أدارت موسكو وأنقرة عملية إنهاء حرب العام الماضي، وشاركتا بقوات لحفظ السلام في كاراباخ، وجدت طهران نفسها مهمّشة في معادلة جيوسياسية جديدة. وزاد من شعورها بالضعف تنامي العلاقات الأذرية الإسرائيلية أخيرا. وكانت، في أثناء الحرب، قد تردّدت في إبداء الدعم المُعلن لأرمينيا، خشية إثارة غضب أكثر من ثلاثين مليون مواطن من أصل تركي يعيشون في شمال إيران. ومع تولي الرئيس إبراهيم رئيسي السلطة، تحاول مقاومة المعادلة الجيوسياسية الجديدة من بوّابة التحرّك لمواجهة ما تعتبره وجوداً إسرائيلياً على حدودها. على الرغم من أن القلق من العامل الإسرائيلي يبدو مبرّراً بالنظر إلى علاقة باكو العسكرية بتل أبيب، لكنّه ليس جديداً، حيث تعتقد طهران منذ سنوات أن إسرائيل تستخدم هذه العلاقة للتجسّس عليها من خلال أدواتٍ، مثل طائرات المراقبة بدون طيار، فضلاً عن تزايد النشاط الاستخباراتي الإسرائيلي في هذه الدولة. لكن استدعاء هذا القلق في الوقت الراهن يُظهر رغبةً إيرانيةً في إفشال تحوّلٍ ترى فيه طهران تهديداً لنفوذها، ليس في جنوب القوقاز فحسب، بل في دول آسيا الوسطى أيضا.
بعد هزيمة أرمينيا، استعادت أذربيجان مناطق على امتداد 130 كيلومتراً من حدودها مع إيران، كانت أرمينيا قد احتلتها في التسعينيات. كما استعادت جزءاً من الطريق السريع الرئيسي الذي يربط إيران بأرمينيا عبر أذربيجان، وهو طريق تجاري مهم إلى البحر الأسود وروسيا. وقد أثار قرار أذربيجان فرض رسوم على الشاحنات التي تنقل البضائع إلى أرمينيا غضب طهران، لتردّ بإجراء مناورات عسكرية على الحدود مع أذربيجان. ثم سُرعان ما أخذ هذا الخلاف بُعداً إقليمياً بإعلان تركيا إجراء مناوراتٍ عسكرية مع حليفتها أذربيجان في إقليم ناخيتشيفان. وليس مصادفةً أن تأتي المناورات الإيرانية أيضاً عقب تدريبات عسكرية أجرتها تركيا وباكستان وأذربيجان في باكو في 12 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول).
أيقظ تهميش إيران في المعادلة القوقازية الجديدة هواجس إيرانية مُتعدّدة الأوجه
أيقظ تهميش إيران في المعادلة القوقازية الجديدة هواجس إيرانية مُتعدّدة الأوجه. من جهة، جاء لحساب تنامي نفوذ تركيا التي سيُمكّنها مشروع ممر ناختشيفان ـ أذربيجان المُتفق عليه في اتفاق السلام من إعادة ربطها جغرافيا بالدول الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، بعد انقطاع عقودا. يخشى الإيرانيون أن يُعرقل هذا الممرّ تجارتهم مع أرمينيا، ويُضعف نفوذهم في دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية. لذلك تجد إيران نفسها الخاسر الأكبر في هذا التحوّل، مقارنة مع مكاسب تركيا وروسيا. وما يُعزّز ذلك أن حليفتها أرمينيا تسعى إلى الحدّ من خسائرها من خلال البحث عن إمكانية إنهاء الخلاف التاريخي مع أذربيجان، وهي بالفعل فتحت مجالها الجوي أمام أذربيجان. كذلك الرسائل التي أعطاها، أخيرا، رئيس وزرائها باشينيان، برغبته في تطبيع العلاقات مع تركيا كانت إيجابية أيضاً.
ولا تنحصر الهواجس الإيرانية في الخشية من العزلة في الوضع الجديد، بل تشمل كذلك سياق التنافس على خطوط إمدادات الطاقة، في منطقةٍ تتقاطع فيها خطوط الأنابيب التي تشحن النفط والغاز الطبيعي إلى الغرب. منذ عام 1994، استثمرت شركة بريتش بتروليوم أكثر من سبعين مليار دولار في مشاريع تطوير الطاقة والنقل من أذربيجان. وتشمل المشاريع خط أنابيب يربط إنتاج بحر قزوين بميناء جيهان التركي. تعزيز تركيا علاقاتها السياسية والاقتصادية بالدول الناطقة بالتركية سيُساعدها في المستقبل على تطوير خط باكو ـ تبليسي ـ جيهان ليشمل نفط تركمانستان وغازها. سيكون هذا الخط منافساً لخط الأنابيب الإيراني المقترح الذي يمتد من جنوب حقل بارس الإيراني نحو أوروبا عبر إيران والعراق وسورية ولبنان، لتزويد العملاء الأوروبيين، وكذلك العراق وسورية ولبنان.
من المستبعد أن تهدأ حدّة التنافس الإقليمي بين طهران وأنقرة في القوقاز، كما الحال في ساحات عديدة أخرى
في أعقاب المناورات الإيرانية، توجه وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، إلى موسكو، سعياً إلى استمالة روسيا إلى جانب طهران في مواجهة المعادلة الجيوسياسية الجديدة، لا سيما أن روسيا لا تبدو مرتاحةً بالكامل للدور التركي الذي ينافسها في منطقةٍ تعتبرها حديقة خلفية لها. قال عبد اللهيان، بوضوح، إن بلاده لن تتسامح مع التغييرات الجيوسياسية وتغيير الخريطة في القوقاز. ويعكس هذا التوجه، بالإضافة إلى تصعيد التوترات مع أذربيجان، محاولة إيرانية لإيجاد ساحة صراع جديدة في المنطقة. لكن ما سمعه من نظيره الروسي، سيرغي لافروف، لم يكن مشجعاً على نحو كبير للإيرانيين. كرّر الأخير أولوية روسيا إيجاد منصّة سداسية تجمع إلى جانب روسيا كلا من تركيا وإيران وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا، من أجل التعاون الإقليمي. بدت موسكو واضحة أنها لا ترغب في إعادة تأجيج الموقف في المنطقة.
على الرغم من أن تركيا تتجنب دعم أذربيجان بشكل مُعلن في خلافها مع إيران، بالنظر إلى حساسية العلاقات التركية الإيرانية، إلاّ أن أنقرة لن تترك باكو بمفردها. لكنّها، في الوقت نفسه، تُريد تحويل مكاسبها في حرب كاراباخ إلى نفوذ استراتيجي طويل الأمد ومستقرّ. سبق أن اقترح الرئيس التركي، أردوغان، صيغة التعاون السداسي بين دول المنطقة، من أجل عدة أهداف، بينها احتواء الغضب الإيراني، لكنّ المقترح يبدو صعب التحقيق في الوقت الراهن، ويحتاج معالجة الخلافات الثنائية بين هذه الدول، قبل جمعها على طاولة واحدة. هناك مشكلة تاريخية بين أذربيجان وإيران وكذلك أذربيجان وأرمينيا، والحال نفسه ينطبق على روسيا وجورجيا. في ظل هذه المعطيات، من المستبعد، على المدى المنظور، أن تخمد حدّة التوترات بين باكو وطهران. ومن المستبعد أيضاً أن تهدأ حدّة التنافس الإقليمي بين طهران وأنقرة في القوقاز، كما الحال في ساحات عديدة أخرى.