في التجربة البرازيلية
أعشق موسيقى الجاز بشكل عام، والسامبا البرازيلي بشكل خاص، موسيقى تثير البهجة عموما، حتى في أسوأ لحظات الإحباط. وأزداد في هذه الأيام عشقا لتلك النوعية من الموسيقى، في أثناء متابعة بعض تطورات البرازيل، واستمرار القراءة عن تجربة التحوّل الديمقراطي في هذا البلد، ففي الأسابيع الماضية، شعر بعضهم بالقلق، بسبب احتشاد أنصار الرئيس السابق، بولسونارو، للتظاهر في الميادين واقتحام البرلمان، في محاولةٍ لإحداث شللٍ في الحياة العامة واستدعاء الجيش للعودة إلى الواجهة السياسية، الذي اعتبره بعضهم تكرارا لما فعله أنصار ترامب من قبل، عندما اقتحموا مبنى الكونغرس، ولكن أولئك لم ينجحوا، رغم تسهيل بعض قادة الشرطة تحرّكاتهم، ففكرة عودة الحكم العسكري في البرازيل، رغم تأييد أطرافٍ في اليمين القومي ذلك، تعتبر فكرة مخيفة للقطاعات الأكبر داخل البرازيل وخارجها. وقد دانت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي محاولات تعطيل أنصار الرئيس السابق انتقال السلطة، بل إن بولسونارو نفسه دان استخدام أنصاره العنف، وتبرأ من استخدام بعضهم المتفجرات بغرض إحداث فوضى. وكان قد سافر إلى الولايات المتحدة بعد التيقن من خسارته، ولم يحضر حفل تنصيب لولا دا سيلفا، ولم يؤدّ الإجراء المتّبع، بأن يسلّم الرئيس المنتهية ولايته وشاح البرازيل للرئيس الجديد. وهذا ما كان قد فعله الجنرال جواو فييريدو عام 1985، عندما رفض المشاركة في مراسم تنصيب خلفه الرئيس المدني جوزيه سارني.
وبشكلٍ عام، يمكن القول إن الديمقراطيات في أميركا الجنوبية أصبحت أكثر نضجا من ذي قبل، فرغم تهديد بولسونارو برفض النتيجة، إلا أنه، في نهاية المطاف، رضخ لها، وتخلى عنه رجال أعمال عديدون، رغم عدم تفضيلهم اليساري لولا دا سيلفا، ورغم تسهيلاتٍ قدّمتها من داخل الأجهزة الأمنية لأنصار بولسونارو، لكن المساندة لم تكن بشكل رسمي، ولم تكن قرارا متفقا عليه داخل المؤسسات البرازيلية، تم التعامل معهم بوصفهم خارجين على القانون في نهاية المطاف. وأخيرا، تم القبض على وزير العدل في حكومة بولسونارو بعد عودته إلى البرازيل من الولايات المتحدة.
القوة الصناعية الكبيرة للبرازيل انطلقت، في الأساس، في أثناء الحكم العسكري، رغم مساوئها
قال الرئيس البرازيلي الأسبق، فرناندو كاردوسور (1995-2002)، عندما كان يفتخر بديمقراطية البرازيل، إن المواطنين الآن لا يتذكّرون أسماء القادة العسكريين الذين نظّموا انقلابات في الماضي، بل يتذكّرون الآن أسماء القضاة ونواب البرلمان، فالقضاء البرازيلي أصبح أكثر قوة واستقلالية إلى درجة أنه حبس لولا دا سيلفا نفسه، أخيرا، في عام 2021 بسبب صفقات فاسدة قام بها بعض مساعديه وأعضاء حكومته، ولكن المحكمة الفيدرالية العليا اعترفت لاحقا بانحياز القاضي سيرجيو مورو، وأنه كان متحيّزا ضد لولا دا سيلفا في أثناء المحاكمة.
البرازيل هي الدولة الأكبر في عدد السكان في القارّة الأميركية الجنوبية (215 مليوناً)، وتملك ثروات عديدة من مواد الخام والبترول، بالإضافة إلى القدرات الصناعية والمقوّمات السياحية، وهي الدولة الوحيدة في القارة الأميركية الجنوبية التي تتحدّث البرتغالية، استطاعت تحقيق نمو اقتصادي كبير، حتى وصلت إلى مرتبة سادس أكبر اقتصاد في العالم عام 2011، بعد أن كانت تعاني من ارتفاع مستوى الدين العام وتراجع معدّلات الاستثمار، وبعد أن عاشت قرونا لا تنتج سوى البن سلعة رئيسية، وكان الاقتصاد مرهونا به.
لا ينكر بعض المعارضين للرئيس الحالي لولا دا سيلفا إنجازاتٍ حقّقها، ولكنهم يعارضون التوجهات الاشتراكية بشكل عام، ويرى بعضهم أن لولا دا سيلفا وأنصاره يتحدّثون أنه لم تكن هناك برازيل قبل وصوله إلى السلطة عام 2002، أو أنه هو المنقذ الوحيد. ويرى معارضون كثيرون أن فترة ما قبل لولا لم تكن بهذا السوء، فليس كل معارضي لولا من أنصار الحكم العسكري أو الفاشية، بل هناك أيضا سياسيون ونشطاء مجتمع مدني ودعاة ديمقراطية أيضا ينتقدون بعض السياسات. ولكن دا سيلفا يحاول، من وجهة نظرهم، مسح كل الإنجازات التي سبقته أو يحاول نسبها إلى نفسه، بالرغم من أن إنجازاته قد تم بناؤها على أساس صناعي قوي وضع قواعده النظام العسكري الذي سبق الفترة المدنية، فالقوة الصناعية الكبيرة للبرازيل انطلقت، في الأساس، في أثناء الحكم العسكري، رغم مساوئها.
لم يكن تسليم السلطة من العسكر للمدنيين في المطلق، ولم يكن لحظياً، بل سبقته سنوات كثيرة من الحراك والشدّ والجذب
فى نهاية عهد الرئيس الأسبق، فرناندو كاردوسو، حتى عام 2002، كانت هناك برامج للإعانة الاجتماعية لمواجهة مشكلات الفقر والجوع، ولكن ما حققه دا سيلفا يعتبر معجزةً بكل المقاييس، فصحيحٌ أن النظم العسكرية السلطوية التي حكمت البلاد منذ الستينيات أقامت مدنا جديدة وشبكة طرق ضخمة ومشروعات قومية عملاقة، وحوّلت البرازيل إلى قوة صناعية لا يُستهان بها، إلا أن مغامرات العسكريين أيضا وانحيازهم للرأسمالية البحتة والنظام النيوليبرالي الصريح أدّيا إلى التفاوت الطبقي الكبير والظلم الاجتماعي وانتشار الفقر بين غالبية الشعب البرازيلي.
كان على لولا دا سيلفا، في بداية عهده، البحث عن خلطة سحرية لتجنّب تحالف الرأسماليين والقوى اليمينية والعسكرية ضده، كما حدث عام 1964، وفي الوقت نفسه، كان يرغب في تحقيق وعوده بالعدالة الاجتماعية التي هي أساس برامجه الانتخابية والحزب الذي ينتمي إليه. ولإحداث ذلك التوازن، قام مثلا بتعيين المليونير اليميني المتطرّف، جوزيه ألينكار، نائبا له عام 2003، بالإضافة إلى طمأنته رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب بأن برامجه لا نيات فيها نحو التأميم أو مصادرة ثروات، وأطلق لولا برنامج Bolsa Família، المخصص لمكافحة الفقر، وكان له دور كبير في زيادة دخل الأسر الفقيرة بنسبة 14%، وظهر تأثيره سريعا، وأطلق برنامج "الصيدليات الشعبية"، الذي يهدف إلى جعل الأدوية متاحة للجميع، وهو البرنامج الذي تم إيقافه بعد إقالة الرئيسة البرازيلية الاشتراكية، ديلما روزيف، عام 2016.
تعدّ البرازيل من نماذج التغيير من أعلى أو التغيير الهادئ طويل المدى، فلم تقم ثورة شعبية أدّت إلى التحوّل الديمقراطي أو لانتقال السلطة، لم تكن هناك ثوراتٌ ملوّنةٌ كما حدث في أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولا انتفاضة شعبية كما حدث في ثورات الربيع العربي، بل الأمر ببساطة أن العسكر تخلوا طواعية عن السلطة وسلّموها للمدنيين بعد تفاقم الأمور ووصولها إلى نقطة ما قبل الانفجار مباشرة، وبعد توفر الظرف الموضوعي.
مع تصاعد الاضطرابات الناتجة من الأزمات الاقتصادية، زادت المطالبات بمزيدٍ من الديمقراطية، وهي طريقة أطلق عليها "الديمقراطية الزاحفة"
كان نظام الحكم سلطويا بطابع قوي، تأسس بعد الانقلاب العسكري في البرازيل الذي استمر منذ عام 1964 عندما أطاح الجيش الرئيس جولار، صاحب الميول الاشتراكية، بالتحالف مع اليمينين، القومي والرأسمالي، برعاية الولايات المتحدة. ورغم الوعود المعتادة بأن يكون التدخل العسكري محدود الوقت، إلا أنه استمرّ حتى 1985. وفي هذه الأثناء، تناوب الجنرالات على حكم البرازيل، وأقاموا نظاما يبدو من الخارج أن فيه بعض الإجراءات الصورية بدلا من الانتخابات المباشرة، بأن يختار الجيش اسم الرئيس ثم يوافق الكونغرس. وشهدت تلك الفترة في البرازيل انتهاكات عديدة، وسجن آلاف وإعدام مئات من المعارضين البارزين، بجانب الاغتيالات السياسية وإغلاق الصحف والمحطات التليفزيونية. وفي بدايات السبعينات، تعرض اليساريون الراديكاليون للتعذيب أو حتى القتل في ما يشبه الحرب الأهلية. وفي 1974، كانت هناك حرب العصابات للرد على الانتهاكات الأمنية المتعدّدة، خصوصا أن البرازيل بلدٌ متعدّد الأعراق والأصول. واعتمد الحكم العسكري على الامتيازات الممنوحة للشركات متعدّدة الجنسيات، وازداد التضخّم من 30% في 1975 إلى 109% في 1980. وكان لدى البرازيل أعلى مستوى من الديون في الجنوب الأميركي ... إلى أن كانت مبادرة الرئيس ارنستو جيزيل (1974 - 1979) الذي خفّف القبضة الأمنية بشكل نسبي بسيط، ولكن الاجراءات كانت أكبر في فترة الرئيس اللاحق الجنرال جواو فيجيريدو (1979 - 1985)، والذي أخذ خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء وهكذا، ولكن مع تصاعد الاضطرابات الناتجة من الأزمات الاقتصادية زادت المطالبات بمزيدٍ من الديمقراطية، وهي الطريقة التي أطلق عليها بعضهم حينها "الديمقراطية الزاحفة".
لم يكن تسليم السلطة من العسكر للمدنيين في المطلق، ولم يكن لحظيا، بل سبقته سنوات كثيرة من الحراك والشد والجذب، وكانت هناك طبقة سياسية أكثر نضجا بالممارسة، وأصبح لديها تصوّر شامل. وهذا ما عكسته مرحلة كتابة الدستور التي استمرّت أكثر من عامين من الحوار المجتمعي والمواءمات والتنازلات من جميع الأطراف، بحيث يخرج دستورٌ يمثل الجميع. وقد أدار العسكر في البرازيل عملية تسليم السلطة لضمان عدم المساس بمكتسباتهم الاقتصادية، وكانت هناك تنظيمات حقيقية على الأرض وأحزاب وحركات اجتماعية ومجموعات طلابية ومجتمعات السكان الأصليين، استطاعت الوصول إلى الحد الأدنى المشترك، بعد تقديم تضحيات كثيرة في سنوات الحكم العسكري.