في البحث عن "ميتافيرس" عربي

21 نوفمبر 2021
+ الخط -

على مدار الأسابيع الماضية، أصبحت كلمة "الميتافيرس" جزءاً من الخطاب اليومي عالمياً ومحلياً، منذ أطلقها مؤسس شركة "فيسبوك" ورئيسها، مارك زوكربيرغ، حين تحدّث عن النقلة الجديدة في عالم الإنترنت. و"الميتافيرس" تقنية جديدة تجمع بين العالمين، الواقعي والافتراضي، والإنترنت، وسيتم من خلالها دمج هذه العوالم الثلاثة في عالم واحد فقط، وذلك عبر تقنيات "الواقع الافتراضي" virtual reality و"الواقع المعزَّز" augmented reality من خلال ما يُعرف بالتكنولوجيا ثلاثية الأبعاد. 
يعني، باختصار، سوف يكون بإمكاننا العيش في واقع افتراضي كامل، بشحومنا ولحومنا وشخوصنا وحواسّنا، وليس فقط بخيالنا وأذهاننا. وهو ما يمثل نقلة نوعية ليس فقط في المجال التكنولوجي، لكن أيضاً، وهذا هو الأهم، في تجاربنا وحياتنا اليومية. فمن المفترض، حسب هذه التقنية الجديدة، أن تتحوّل حياة البشر إلى مرحلة مختلفة ومغايرة من التفاعلات الحياتية والتجارب الـشخصية، تتجاوز الإنترنت بشكله التقليدي، وكذلك تعيد تعريف وظائف الهواتف الذكية التي لن تتوقف فقط على الاستخدامات الحالية كالاتصال والتصوير والتواصل... إلخ.

سيكون بمقدور أيّ شخصٍ أن يصنع عالمه الخاص به تماماً، وأن يعيش فيه، من دون الحاجة للآخرين

الأكثر من ذلك، وهذا هو الأخطر، سيكون بمقدور أيّ شخصٍ أن يصنع عالمه الخاص به تماماً، وأن يعيش فيه، من دون الحاجة للآخرين. وبغض النظر عن الواقع الفعلي الذي يعيشه. وهي بالقطع تجربة ثورية، لكنّها مخيفة في الوقت نفسه، إذ من شأنها أن تخلق عوالم "افتراضية" جديدة تماماً أبعد ما تكون عن الواقع. فحسب تقرير لموقع "سبوتنيك" الإخباري، سوف يصبح "كلّ نشاط إنساني في الواقع الحقيقي متاحاً بكلّ تفاصيله في العالم الافتراضي، الأمر الذي يعني أنّ الإنسان ربما يكون قادراً على البقاء في العالم الافتراضي فترات أطول، فهو إما مسترخيا في منزله الافتراضي، أو يمارس إحدى الألعاب أو الرياضات مع أصدقاء من مختلف أنحاء العالم، أو يعقد اجتماعات افتراضية أو يتسوّق ما يحتاجه من متاجر على الجانب الآخر من الكوكب".
أتذكر جيداً حين دخل الإنترنت عالمنا العربي، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وكنّا، في ذلك الوقت، نقف مشدوهين أمام تلك الشاشة الصغيرة التي تأخذنا بمجرّد الضغط على لوحة المفاتيح من مكان إلى آخر، ومن موضوع إلى آخر، بشكل لم يستوعبه عقلنا وتجربتنا المحدودة في ذلك الوقت. أو أن تعرف أنّك بكبسة زر واحدة يمكنك أن تنقل رسالة إلى شخص آخر يبعد عنك آلاف الأميال، من دون أية تكلفة مالية. وبعدها بسنوات قليلة، ظهرت الهواتف الذكية (الجوّالة أو المحمولة حسبما يسميها بعضهم)، والتي نقلت التواصل والعلاقة بين البشر إلى مستوى جديد آخر لم نستوعبه أيضاً وقتها.
وبالنسبة لنا في العالم العربي، سيكون "الميتافيرس" مطلباً شعبياً وجماهيرياً، وذلك ليس حباً في التكنولوجيا المتقدّمة، أو احتفاء بما بشّرنا به زوكربيرغ، وإنما هرباً من الواقع الحقيقي الذي يعيشه يومياً المواطن العربي. ولربما يحتفي به مواطنو مصر وليبيا واليمن وسورية ولبنان والعراق والسودان وغيرهم من مواطني العالم العربي الذين سيحاولون الهرب من مشكلاتهم ومآسيهم وأوضاعهم الصعبة، سياسياً أو اقتصاديا أو اجتماعياً، باتجاه عوالم "افتراضية" جديدة من صنع أياديهم، وحسب أحلامهم وطموحاتهم.

ربما لن يمرّ وقت طويل، حتى يصبح لدينا "ميتافيرس" في كلّ بيت عربي، ولكلّ فرد من أفراد العائلة

وربما لن يمرّ وقت طويل، حتى يصبح لدينا "ميتافيرس" في كلّ بيت عربي، ولكلّ فرد من أفراد العائلة، لينفصل فيه شعورياً ونفسياً عن بقية أفراد عائلته وعن مجتمعه. وستكون من مصلحة الأنظمة السلطوية العربية أن توفر خدمة "الواقع المعزَّز" مجانية، وذلك كي تساعد مواطنيها في الهرب من واقعهم المأساوي إلى واقع افتراضي متخيل.
أي أننا نتجه بسرعة باتجاه مرحلةٍ يمكن أن نسميها "اليوتوبيا الواقعية" والتي سوف تجمع بين الواقع والخيال، الحقيقي والمتخيل، الطبيعي والمصطنع. وهي مرحلةٌ لن تبقي شيئاً على حاله، بل ستتداخل العوالم بعضها مع بعض، لتصعب علينا التفرقة بين ما هو حقيقي وما هو غير ذلك. 
أما مكمن الخطورة في هذه التجربة الجديدة، فلا يتركز فقط في العيش في هذا العالم الموازي، لكن أيضاً في ما قد يحدثه من مشكلات ومتاعب نفسية وإنسانية كثيرة، نتيجة للفجوة الواسعة التي تفصل بينه وبين العالم الحقيقي الذي يعيشه المواطن العربي. وفي واقع مليء بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية كالبطالة والتهميش وعدم العدالة... إلخ، فإنّ الهروب من الواقع الحقيقي باتجاه آخر افتراضي أو خيالي لن يعني قطعاً نهاية هذه الأزمات والمشكلات، بل على العكس قد يفاقمها، خصوصاً إذا ما عاد الشخص من عالمه الافتراضي "المثالي" إلى واقعه القبيح. ومع اتساع حجم الهوّة بين هذين العالميْن، قد تكون العواقب وخيمة على الفرد والمجتمع والدولة.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".