في الانتصار للمرزوقي
أنهى المثقف التونسي اللامع، وهذه صفته الباقية قبل رئاسته بلدَه وبعدها، المنصف المرزوقي، بيان انسحابه من الحياة السياسية في تونس، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وسمّاه "رسالة إلى الشعب"، بإتيانه على قولٍ لأبي حنيفة "هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءَنا بأحسن منه فهو أوْلى بالصواب". وتمنّى الصواب لكل شعوب الأمة العربية، ولشبابها، ولكل التونسيين والتونسيات، وأيضا للرئيس قيس سعيّد، وقد خصّه باسمه. لم يكن يخطر في بال المرزوقي أن هذا الرجل لن يفعل شيئا، وهو في سدّة الرئاسة، غير النأي أبعد فأبعد عن الصواب (أو جادّته؟). وقد قال قبل أيام، إنه لم يتخيّل يوما أن تونس ستشهد ديكتاتورا ثالثا، في إشارةٍ إلى سعيّد الذي انتخبه المرزوقي في الدورة الثانية من انتخابات 2019. ولا يُغامر واحدُنا لو ذهب إلى أن الشذوذ الذي يقيم عليه قيس سعيّد في ممارسته السياسة وإدارة شؤون الدولة لم يكن في متخيّل أحد، في تونس وغيرها. ولمّا جاء المرزوقي على صنوف الديكتاتوريات وأنماط الاستبداد في مؤلّفاته، وأجاد في التأشير إلى مخاطر كل منها على المجتمعات العربية، فإنه لم يتناول النموذج المبتكَر الذي يمثله قيس سعيّد، الرئيس الذي يخالف معمّر القذافي في أنه منتخَب، وإن يتشابَه اثناهما في الركاكة المشهودة، على تباين منسوبها لدى كلٍّ منهما. والراجح أن المرزوقي لمّا جاء في كتابه "دع وطني يستيقظ" (1986) على حقّ مراقبة الحكام وتغييرهم، لم يأت في باله أنه سيشهد يوما، في تونس، افتراءً شنيعا على الديمقراطية وتداول السلطة وانتخاب المواطنين رئيسهم، بالمقدار الذي يتبدّى في وصول قيس سعيّد إلى قصر قرطاج، بكيفيةٍ ديمقراطيةٍ وفي تداولٍ على السلطة وبالانتخاب، ثم يرتدّ هذا الرجل على النواظم الحاكمة لهذا كله، وبكيفيةٍ انقلابيةٍ عليها. وفي الوقت نفسه، تناصِره نخبٌ وتكويناتٌ وفاعليات مدنية، ومعها مشتغلون في الثقافة والأدب والفنون.
مناسبة التذكير بهذه النتف من بعض أرشيفٍ غزيرٍ للمنصف المرزوقي أن الرجل يتعرّض لاستهدافٍ مريعٍ في بلده، بعد اجتراء قيس سعيّد عليه، فيما البديهي أن المناضل الحقوقي، طبيب الأعصاب، العتيد، لم يكن ممكنا إلا أن يأخذ المواقف التي أشهرها منذ واقعة "25 جويليه" (يوليو/ تموز) الانقلابية، وإلا لن يكون متّسقا مع نفسه وتجربته السياسية والفكرية ومناقبيّته الأخلاقية لو داهنَ ومالأ، فهو داعيةٌ عتيقٌ في الفضاء العربي، والتونسي بداهةً، إلى الديمقراطية، إلى دولة المواطنة والقانون، وإلى صيانة حقوق الإنسان وتأمين كرامته. ولمّا صار رئيسا لتونس، بعد أن انتخبه المجلس التأسيسي في العام 2011، عمل على تنزيل هذه المفاهيم في الواقع المعيش، ونشط في صياغة الدستور التونسي الذي خرج بموجبه في 2014 من قصر قرطاج، ليدخلَه رجلٌ بورقيبي اسمُه الباجي السبسي، يُحسَب له أنه لم يغلّب محافظَته ونقصان حساسيته الثورية على منزع التوافق والمشاركة مع مؤسسات الحكم والسلطة ومع تمثيلات الفضاء السياسي في البلد. وذلك قبل أن يدخل القصر رجلٌ محمولٌ على الادّعاء، يقولون إنه أستاذ في القانون الدستوري، فيما لا تقع على أي منجزٍ له في نحو عامين في قصر الرئاسة سوى العدوان على الدستور، ويحترف الثرثرة ضد الفساد من دون أن تعرف المحاكم ملفّا قدمه في محاربة الفساد. وهذه محكمةٌ تونسيةٌ ستنظر في دعوى سارع أنصارٌ له إلى تقديمها ضد المرزوقي، بتهمة "ارتكاب جريمة اعتداءٍ على أمن الدولة الخارجي" (!)، بذريعة إعلانه فخرَه بمساهمته في تأجيل القمة الفرنكوفونية، وكان مقرّرا عقدها الشهر المقبل (نوفمبر/ تشرين الثاني) في تونس، لما كان سيمثلّه هذا الحدث من دعمٍ لسلطة سعيّد الانقلابية وحكومته.
لم يفتئت المنصف المرزوقي على الحقّ والحقيقة لمّا نعت هذه السلطة بما هي عليه. ولم يخدش تونسيّته في شيء، لمّا سخر من توجيهٍ رئاسيٍّ بنزع جواز سفره الدبلوماسي بأنه يحمل الجنسية الفرنسية. ولم يكن على غير الشجاعة المعهودة فيه، منذ كان يحبسه بن علي، ومنذ كان ينشط في هجاء شخصنة بورقيبة، لمّا جهر بأنه غير معنيٍّ بأي قرار يصدر من سلطاتٍ في تونس غير شرعية. وليس الإعجاب بكثيرٍ مما أعطاه وبذله وسلكه المرزوقي في غير مسألةٍ، تونسيةٍ وعربيةٍ (وفلسطينية) وإنسانية، وحده ما يجعل الانتصار له واجبا في الذي يتهدّد به منذ أيام، وإنما أيضا لأن في هذا شيئا من الواجب الملحّ في مناهضة سلطةٍ انقلابيةٍ، تأخذ تونس إلى شفير ديكتاتوريةٍ رثّة، عنوانها قيس سعيّد.