في أيدي العسكر والأميركان
لو صدر كتاب "في أيدي العسكر... الحرية والفوضى في مصر والشرق الأوسط" في شبه دولة، كما يصف الرئيس عبد الفتاح السيسي الدولة المصرية، لقلب الدنيا. لكنه صدر مترجما عن دار جسور للنشر، هنا والآن، حيث لا صوت. جاءت ترجمة محمد الدخاخني نافذة إلى درجةٍ تشعر معها أن الكتاب عربيٌّ من الأساس، لولا أن مؤلف الكتاب، الصحافي الأميركي ديفيد كيركباتريك، لا يتركك مع هذا الشعور، فقد بدا، في مواضع متفرّقة من الكتاب الوثيقة، أميركيا أكثر منه صحافيا. وإذا كان أسوأ ما في الكاتب غلبة أميركيته عليه، أحيانا، فإن الأمركة ذاتها أخطر ما كشفته "معلومات" صحافي "النيويورك تايمز" السابق في القاهرة ديفيد كيركباتريك. حضور أميركي زائد عن الحدّ.. زائد عن اللزوم.. زائد عن تصوّرات أكثر خصوم الدولة راديكالية وهوسا بالحكومة الصهيو- أميركية الخفية للعالم، فالأميركيون موجودون في كل شي.. على هواتف الرئيس حسني مبارك أول أيام الثورة.. وعلى هواتف رجاله، لواءات الجيش والشرطة، يتواصلون حينا.. ويتنصتون أحيانا.. في قصور الرئاسة.. في المخابرات.. في الشؤون المعنوية.. لهم كلمة في كل مسألة.. رأي في كل مشكلة.. توجيه في كل معضلة. هذا ما حملته سطور كيركباتريك من "معلوماتٍ" بناء على "مقابلاتٍ" مع "مصادر" محدّدين بالاسم أو الصفة، وهي معلومات لم يقصد صاحبها توثيق هذا الحضور الأميركي السمج، إنما حكاه في السياق، فماذا لو قصد؟
إذا كنت ممن عايشوا ثورة يناير من بدايتها إلى مذبحة ميدان رابعة العدوية، فلن تفاجئك معلومات كيركباتريك قدر ما ستدهشك هذه الأريحية التي يتحدث بها نخبنا مع "الخواجات". وحتى لو افترضنا أن كيركباتريك مغرض، وغير صادق، فإن نسبة الكلام إلى مصادره تقتضي نفيا "واضحا" من هذه المصادر.
نحتاج، مثلا، أن يخبرنا السيسي هل حقا كان يتجسّس على مبارك قبل الثورة، وهو من أخبر قيادات المجلس العسكري أن مبارك ينوي توريث الحكم لنجله جمال في مايو/ أيار 2011؟ هل حقّا توقّع السيسي نزول المصريين في مظاهرات اعتراضا؟ هل حقّا احتفى قادة المجلس العسكري بهذا النزول وأخبروا قياداته الشبابية بأنهم فعلوا ما يريده الجيش؟ هل حقّا سمحت قيادات الجيش باقتحام السفارة الإسرائيلية في الجيزة لتوصيل رسالة إلى الأميركان أن ضمانة أمن إسرائيل في استمرار الحكم العسكري في مصر، ما دفع أصواتا كثيرة في الإدارة الأميركية إلى دعم إجراءات المجلس العسكري الانقلابية، من حلّ مجلس الشعب إلى عزل الرئيس المنتخب؟
نحتاج أن نسأل مساعد وزير الدفاع اللواء مختار الملا: هل استدعى بنفسه الصحافيين الأجانب في مصر، من دون المصريين، في أثناء انتخابات برلمان الثورة، وقال لهم: لا تقلقوا بشأن انتصارات الإسلاميين الانتخابية... الجيش سيعيّن رئيس الوزراء... وسيظلّ مسيطراً على الحكومة. ولن تقدر الأغلبية على فرض شيء؟ أم أن التسجيل الصوتي الذي أذاعه كيركباتريك بعد هذه المقابلة من تقنيات حروب الجيل الرابع؟
نحتاج أن نسأل قيادات "الداخلية"، هل حقا ما ادّعاه أهل الشر على الشرطة المصرية، وأكده كيركباتريك استنادا إلى مصادر، أبرزها، ومفتاحها، عميد الشرطة المتقاعد خالد أمين، من أن "الداخلية" جلبت بلطجيةً من البدو وغيرهم لنهب المحلات أيام الثورة، وتواطأت في أثناء الثورة وبعدها على تمرير جرائم قتل واغتصاب وسرقة بالإكراه، لإشاعة الإحساس بالرعب بين المواطنين، خصوصاً المؤيدين لسقوط مبارك، ثم تعمّدت إسقاط مرسي، منذ اليوم الأول، وعملت ضدّه؟
هل رحّب محمد البرادعي وعماد جاد وأحمد سعيد وأسامة الغزالي حرب بتدخّل الجيش في السياسة منذ اليوم الأول لحكم الإخوان المسلمين؟ هل قال رئيس الوزراء الأسبق، حازم الببلاوي، للصحافي الأميركي إن أكثر ما يفخر به في فترة رئاسته الحكومة هو فضّ الاعتصام في ميدان رابعة؟ هل برّرت رئيسة المجلس القومي للمرأة ميرفت التلاوي كشوف العذرية واعتبرتها ضرورة لازمة لحماية ضباط الجيش من ادّعاءات سيدات مصر عليهم بالاغتصاب؟ تفيض الأسئلة عن مساحة المقال، وتحتاج إلى عشر أضعافها، ولا نطمع في أكثر من سطور قليلة تحمل إجابات.