فيسبوك أخطر من إيران

24 سبتمبر 2021

(Getty)

+ الخط -

في أول خطاب له بالأمم المتحدة الثلاثاء الماضي، رسم الرئيس الأميركي، جو بايدن، صورة التهديدات التي تحيط بكوكب الأرض وسكانه، من جائحة كورونا المستعرة وظاهرة الاحتباس الحراري إلى محاولات الدول الأقوى للهيمنة على الدول الأضعف. ولعلها من محاسن المصادفات أن يتزامن تحذير الرئيس الأميركي مما سماه "خطر الاستغلال التكنولوجي أو المعلومات المضللة" مع تسريب وثائق داخلية تكشف خطر عملاق وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك" على الصحة العقلية للمستخدمين، ونشر الخدع، وتعطيل الديمقراطية. ويأتي الكشف الجديد الذي نشرته "وول ستريت جورنال" لتضاف إلى سجل "فيسبوك" الذي واجهته، في السنوات القليلة الماضية، موجاتٌ من الاتهامات والانتقادات الحادّة؛ بسبب تورّطه في أزمات اختراق الخصوصية، ونشر خطاب الكراهية والعنصرية، فضلاً عن التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية لعام 2016 عبر منصّاته، وترويج معلومات مضلّلة عن وباء كورونا واللقاحات.

تحت عنوان "ملفات فيسبوك" نشرت "وول ستريت جورنال" سلسلة تحقيقات سلطت الضوء على حقائق مهمة عن عملاق التكنولوجيا العالمي فيسبوك، وذلك استناداً إلى ما جاء في وثائق سرّية سرّبها أحد موظفي الشركة، كشفت بشكل صادم مدى ازدواجية المعايير لدى "فيسبوك" الذي يقوّض، في الخفاء، أهم القيم الإنسانية والمبادئ العامة ويضرّ بالصحة العقلية للمستخدمين. وعلى الرغم من تأكيد مارك زوكربيرغ، في أكثر من مناسبة، أن شركته تسمح لأكثر من ثلاثة مليارات مستخدم بالتواصل والتوجه إلى الجمهور على قدم المساواة مع النخب السياسية والثقافية والصحافية، وأن معايير النشر على المنصّة تنطبق على الجميع، بغضّ النظر عن شهرتهم أو مكانتهم، إلا أن الوثائق المسرّبة تكشف تواطؤ الشركة مع بعض المستخدمين البارزين والمؤثرين، وتمكّنهم من نشر محتوياتٍ تنتهك، في الغالب، القواعد العامة التي تزعم الشركة التزامها.

لم يفت الرئيس الأميركي تذكير العالم، بالتصريح أو التلميح، إلى خطر دول، مثل إيران وكوريا الشمالية والصين، على الاستقرار العالمي، لكنه غفل عن تنبيه العالم إلى تضخم (وتمدّد) امبراطوريات غير مرئية، غير أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، مثل "فيسبوك" و"تويتر" و "توك توك" بات فيها أخطارٌ عابرةً للقارّات، وتهدّد البشرية في أعلى قيمها الإنسانية. في مقاله الشهير "الدعاية" الذي نُشر في العام 1928، كتب خبير العلاقات العامة والدعاية إدوارد بيرنز: "التلاعب الواعي والذكي بالعادات المنظمّة ووجهات نظر الجماهير هو عنصر مهم في المجتمع الديمقراطي. أولئك الذين يتلاعبون بآلية المجتمع غير المنظورة يشكّلون حكومة غير مرئية، هي القوة الحاكمة الحقيقية لبلادنا. نحن محكومون، عقولنا مقولبة، أذواقنا متشكّلة، وأفكارنا مقترحة، إلى حد كبير، من رجالٍ لم نسمع عنهم قط. هم الذين يسحبون الأسلاك التي تتحكّم في العقل العام".

على الرئيس الأميركي، ومن خلفه المجتمع الدولي، الاعتراف، بكل شجاعة، بأن الأزرار التي تتحكّم بها شركات التواصل الاجتماعي باتت أكثر خطراً من زرٍّ أحمر تسعى إلى امتلاكه إيران أو كوريا الشمالية، لأن هذه الشركات، وغرف التحكّم المظلمة فيها، باتت الأقدر في التأثير على الجماهير، مستفيدةً من التطور التكنولوجي، والكم الهائل من المعلومات المُتاحة لها لهندسة الرأي العام، والتلاعب بالأفراد والمجتمعات، تبعًا لأجندات سياسية وتجارية مدفوعة الثمن.

تكشف الفضائح المتتالية، من فضيحة "كامبريدج أناليتكا" في العام 2017 (كشفت تلك الفضيحة عن حجم التلاعب في الانتخابات الأميركية 2016، والتلاعب في توجيه المصوتين في استفتاء "بريكست" البريطاني) إلى فضائح "فيسبوك" المتلاحقة، حجم الخطر الذي تشكله منصّات الإعلام الاجتماعي على صحة البشرية وسلام أمنها الاجتماعي. وتُظهر محتويات الوثائق التي نشرتها "وول ستريت جورنال" كيف أن من وصفهم إدوارد بيرنز بـالحكومات غير المرئية صاروا أكثر قوةً ونفوذًا في عصر منصّات التواصل الاجتماعي، بينما صار الأفراد والدول أقل مناعة، وأكثر عرضةً للسيطرة، وكيف أن فبركة الأخبار والتلاعب بالعقول باتت خطرًا قد يحيل أعرق الديمقراطيات إلى "جمهوريات موز" تتحكّم بها تحالفات منصّات الإعلام الاجتماعي مع حكومات ظل وجيوش من الذباب الإلكتروني.

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.