فوز اليمين الفاشي في إيطاليا ومعضلة اليوم التالي

04 أكتوبر 2022
+ الخط -

تتكرّر تجربة اليمين الشعبوي الإيطالي الذي فاز في انتخابات سنة 2018 التشريعية مع فوز اليمين الفاشي في الانتخابات التي جرت قبل أيام، لافتقاره لرؤية واضحة لحل الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، سوى الاستمرار بتلقي أموال التعافي الاقتصادي من الاتحاد الأوروبي الذي يدعو إلى حله. ومع فوز اليمين المتطرّف في عدد من الدول الأوروبية، وتصدَّر حزب جورجيا ميلوني "أخوة إيطاليا" ذي الأصول الفاشية، بأعلى الأصوات، أصبح مؤكّداً أنّ هنالك سعياً جماعياً لنشر ثقافة النموذج اليميني المتطرّف عبر أوروبا، غير أنّ الورطة التي يقع فيها هؤلاء هي معضلة اليوم التالي لفوزهم، والذي جاؤوه على أحصنة مختلفة كلّ الاختلاف عن الأحصنة التي يمكن أن تجلب على ظهرها وسائل إخراج البلاد من أزماتها الجدّية فتخلصها من الركود الذي تعانيه وتحقّق لها النمو.
وكما في كلّ الأزمات، كانت الكراهية عملة الأحزاب اليمينية المتطرّفة الأوروبية، واليمين الأميركي أيضاً، تعمل على تكريسها عبر إثارة موضوعاتٍ ليست أساسية ولا مؤثرة في الأزمات، من أجل كسب أصوات الناخبين، في حين يبتعدون عن الخوض في السبل القويمة الكفيلة بإخراج بلدانهم من هذه الأزمات. وهكذا اتّبعت جورجيا ميلوني، زعيمة حزب "أخوة إيطاليا" في حملتها الانتخابية أسلوب أسلافها في الأحزاب اليمينية الإيطالية الأخرى، سيلفيو بيرلسكوني زعيم حزب "قوة إيطاليا"، وماتيو سالفيني زعيم حزب "الرابطة" اليميني، ومعهما حركة "خمس نجوم" الشعبوية، في طرح قضايا الهجرة والمثلية والإسلاموفوبيا، للصعود الشعبي وكسب أصوات الناخبين.
وفي حين أنّ إيطاليا تواجه مشكلات ارتفاع معدلات التضخّم وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، إضافة إلى البطالة، فإنّ ميلوني، المرشّحة لتشكيل الحكومة بفضل فوز حزبها بنسبة 22% من أصوات الناخبين، والائتلاف اليميني الذي ترأسته بنسبة 44%، رفعت خلال حملتها الانتخابية شعارها الطوباوي: "الله، الوطن، العائلة" ودعت إلى مكافحة "أسلمة إيطاليا" وبناء أسوار حولها لوقف تدفق موجات المهاجرين إليها. ويذكّرنا هذا بالشعارات الطوباوية الغامضة التي أطلقتها حركة "خمس نجوم" الشعبوية، والتي تشكل نجومها الخمس، الماء والبيئة والنقل والتنمية والطاقة، والتي أرادت عبرها إعادة صياغة السياسة، في حين افتقرت إلى نظرية اقتصادية متكاملة، أو رؤية موضوعية واضحة المعالم، تساعد في حلّ مشكلات البلاد وإدارتها الإدارة الناجعة، إلّا أنّها استطاعت الصعود بشكل صاروخي، أواسط العقد الماضي، ونجحت في الانتخابات التشريعية وشكلت تحالفاً لرئاسة الحكومة.

مع الغزو الروسي أوكرانيا، ظهر مزاج توحيدي لدى جميع الأوروبيين، بعدما لمسوا حجم الخطر الوجودي الذي يهدّد أوروبا وهويتها واقتصادها

وتعاني الأحزاب اليمينية الإيطالية، خصوصاً المتطرّفة والفاشية منها، والتي فازت في الانتخابات الأخيرة، من معضلة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. إذ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، تلقّفت هذه الأحزاب شعار الخروج من مؤسّسات الاتحاد بعدما شاهدت الشعبية التي اكتسبها هذا الشعار في بريطانيا، وعوّلت عليه لإكسابها الشعبية بين أوساط الشعب الإيطالي، في محاولة منها لكسب جمهور الأحزاب اليسارية التي ترفعه بشكل دائم. وأخذت تتشدّد في طرحه، واتخذته هدفاً أساسياً وسبيلاً لحل المشكلات، في حين أن الأحزاب اليسارية لا تسوِّق له هدفاً أساسياً وضرورياً للخروج من الأزمات التي تعزوها إلى أسبابٍ أكثر جوهرية وبنيوية في الاقتصاد والسياسة الإيطاليين. والآن، ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، ظهر مزاج توحيدي لدى جميع الأوروبيين، بعدما لمسوا حجم الخطر الوجودي الذي يهدّد أوروبا وهويتها واقتصادها ومبادئها التي سعت إلى إبرازها وتكريسها واقعاً مع تأسيس الاتحاد الذي جمعها وبدأ يوحّد سياساتها الخارجية ويدمج اقتصاداتها. لذلك توقفت هذه الأحزاب مرحلياً عن طرح شعار الخروج من الاتحاد، خوفاً من أن يدفع الاستمرار في طرحه الناخبين لكي ينفضّوا عنها ويعطوا أصواتهم لمنافسيهم من اليسار، على الرغم من أنّ ميلوني أبقت على شعار الخروج من الاتحاد مرفوعاً (الله، الوطن، العائلة) وتقصد بـ"الوطن" إيطاليا المستقلة عن أوروبا.
وهنا يسجّل على هذه الأحزاب انتهازيتها، فعلى عكس الأحزاب اليسارية، لم تغيِّر الأحزاب اليمينية من خطابها الشعبوي، المعادي للمؤسسات والرافض فكرة الاتحاد الأوروبي سوى من أجل الاستمرار بتلقّي أموال خطّة التعافي الاقتصادي من الاتحاد، لعجزها عن طرح أي تصوّر لحل الأزمة القائمة في البلاد، وبالتالي الاستغناء عن هذه الأموال. من جهة أخرى، كانت هذه الأحزاب، خصوصاً حزب الرابطة وزعيمه سالفيني، يجاهرون بإعجابهم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويتلقون الدعم الدائم منه، حتى أن سالفيني ظهر مرّات عدة مرتدياً سترة تحمل صورة بوتين، وهو ما يمكن أن يجلب له العار بعدما هدّد بوتين بلاده وأوروبا بحرمانهم من الغاز والبترول وغيرهما من المواد اللازمة للغذاء والزراعة، علاوة على تهديده أمن القارّة واستقرارها.

يستمرّ اليمين بخطته التي تعد أخطر من أيّ فوز، وهي نشر ثقافة اليمين، والتطبيع مع ثقافة اليمين الفاشي

من المرجّح أن تدخل إيطاليا في أزمة حكومية بسبب الريبة التي تحكم علاقة أحزاب اليمين بعضها ببعض، وهو ما حدث بعد انتخابات سنة 2018 التشريعية، عندما فشلت حركة النجوم الخمس وحزب الرابطة في تسمية رئيس حكومة. ومن المتوقع في هذا الاستحقاق أن يظهر خلافٌ بينها على الحقائب، إضافة إلى إمكانية استبعاد سالفيني من الحكومة بسبب محاكمته لإجباره مهاجرين على العودة إلى البحر بالقوة، بعد وصولهم إلى إيطاليا. وهنا قد تتشكّل حكومة هجينة من اليمين المتطرّف واليمين التقليدي واليسار، وهو ما يمكن أن يمنع التوافق، لتعيش إيطاليا فترة عدم استقرار حكومي. وإذا لم تتشكّل الحكومة، قد يبرز احتمال إعادة الانتخابات البرلمانية، وهو الاحتمال الذي ظهر بعد الانتخابات السابقة.
لا تبدو معضلة اليمين الخاصة بخطة اليوم التالي بهذه القوة إلا لأنه تمكّن من الفوز على صهوة خطاب الكراهية، ونتيجة ترهّل اليسار وضعف ماكينته الانتخابية، علاوة على استمرار اليسار في طرح فكرة خروج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي ومن حلف الناتو، فيما توقفت قوى اليمين عن طرح هذه الشعارات، وفي وقتٍ تخلت فيه السويد وفنلندا عن حيادهما وقرّرتا الانضمام إلى "الناتو" خوفاً من الخطر الروسي. مع ذلك، يستمرّ اليمين بخطته التي تعد أخطر من أيّ فوز، وهي نشر ثقافة اليمين، والتطبيع مع ثقافة اليمين الفاشي، الذي قد يتسلم الحكم من أجل تحقيق الإصلاحات وإحداث نهضة اقتصادية فتزداد شعبيته، مقدّمة للانقضاض على الحقوق والحريات، تكراراً لما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، وأوصل أوروبا إلى الحرب العالمية الثانية والخراب.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.