فلسطين وطن شعبها ودولته
لم تكن فلسطين يوما مقرّا أو مستقرّا للعابرين، ولن تكون مستقبلا سوى وطن أبنائها الفلسطينيين ودولتهم، هم الذين أقاموا واستقرّوا فيها عبر أعوام الاستقرار الكنعاني، وهي الأعوام السابقة على وجود أي عنصر عبري أو عبوره، سوى في المرويات الخرافية والأسطورية التي واكبت نشوء التوراة على أيدي كهنتها، منذ ما قبل نشوء "دولة الخزر اليهودية" التي استمرت حتى هاجمها الروس عام 965، وسبوا أهلها إلى أوروبا الشرقية والوسطى، ليظهر بعد ذلك اليهود في بولونيا وهنغاريا، ومنها إلى ألمانيا وسائر دول أوروبا.
تجيب الباحثة والمحللة السياسية الروسية، تاتيانا غراتشوفا، في كتابها "دولة خزاريا المخيفة" عن أسئلة كثيرة مهمة، من شأنها أن تفكّ اللغز حول اختفاء يهود الخزر.. أين ذهبوا؟ وكيف وصلوا إلى دول أوروبا الشرقية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا؟ وكيف وصلوا إلى أميركا، وتمكنوا من السيطرة على مفاصل الاقتصاد وعلى البنوك؟ وتشرح المؤلفة في كتابها المهم، مستندة إلى وثائق تاريخية، رفعت عنها السرّية، كيف عمل أحفاد "خزاريا" على تأسيس الحركة الصهيونية، وكيف اشتروا قادة الدول الكبرى حينها، للموافقة على نقل اليهود من أوروبا إلى فلسطين، وتذكر كيف تعاملت الحركة الصهيونية والبنوك التابعة لها مع الفاشيين في ألمانيا، حيث جمعت تكاليف حملة هتلر الانتخابية، وأوصلته إلى الحكم عام 1933.
تجيب تاتيانا غراتشوفا، في كتابها "دولة خزاريا المخيفة" عن أسئلة كثيرة مهمة، من شأنها أن تفكّ اللغز حول اختفاء يهود الخزر.. أين ذهبوا؟
واليوم هناك من يطل من شرفة التاريخ، يريد استعادة سردياته السوداء ومروياته الزائفة، عن وطنٍ لليهود في فلسطين، وعدهم به الرب أرض ميعاد لهم، وتلك أكثر تلفيقات الكهنوت الديني قسوة وجورا وكذبا وتجاوزا واعتداءً على كل القيم البشرية والإنسانية، ليأتي اليوم من يريد استعمال ثروات بلاده، بغرض استكمال ما بدأته الحركة الصهيونية من بيع وشراء وتكريس وطن الشعب الفلسطيني وطنا ليهود العالم، عبر تطبيع مؤامراتي، يهزأ أصحابه بالتاريخ، وكأنه طوع بنان ثرواتهم تحت الأرض، وتلك التي فوقها في بنوك "أسياد العالم القدامى والجدد"؛ وكأنهم بأموالهم يريدون من التطبيع التحالفي القائم اليوم أن يكون مدخلا لكتابة تاريخ أكثر جوْرا ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه في وطنه التاريخي، خيانة لكل قيم ومبادئ الكينونة البشرية.
على الرغم من ذلك كله، ما فتئت فلسطين هي ذاتها، فلسطين منذ تأسست أول مرة في الأزمان الغابرة، وستبقى وطنا لشعبها على طول الأزمان؛ وستبقى حاجة الشعب الفلسطيني لدولة له، تحتمها الضرورة التاريخية والقيمية، حيث ينبغي السعي إلى إقامة مثل هذه الدولة، على أنقاض دولةٍ عابرة، هيمن عليها أغرابٌ عابرون لم ينسلخوا عن هوياتهم العرقية أو القومية، على الرغم من مرور أكثر من سبعين عاما على الإعلان عن قيام دولة مصطنعة ليهود العالم الصهاينة عام 1948.
هنالك من يطل من شرفة التاريخ، يريد استعادة سردياته السوداء ومروياته الزائفة، عن وطنٍ لليهود في فلسطين، وعدهم به الرب أرض ميعاد لهم
لماذا إذا يصرّ بعض الأشقاء العرب، وغيرهم من النخب والأنظمة الرسمية، بمن فيهم رسميون فلسطينيون ونخب سلطوية، على اعتبار "الأمر الواقع" الإسرائيلي أعلى منزلة من الواقع نفسه، أي من واقع فلسطين أرضا وشعبا ودولة يجب أن تتجسّد كيانا دولتيا فوق الأرض التي كانت يوما وما زالت "فلسطين التاريخية"، فلسطين التي أدرك العقل وجودها قبل أن ينفيها "العقل اللاهوتي"، مكرّسا "شعبا مختارا" للرب، كي يمنحه أرض شعب آخر ووطنه، ما زال موجودا على أرضه وفي المنافي القريبة والبعيدة، ليأتي اليوم من يصادق على ترّهات العقل اللاهوتي، معترفا ومطبّعا ومتحالفا وخاضعا لأمر واقع احتلال استيطاني فاشي، في وقت يذهب بعضهم إلى مطالبة هذا الاحتلال بمنح الفلسطينيين "دولة قاصرة" تحت سيادة الاحتلال، دولة أقرب إلى حكم ذاتي بلدي اختياري، وهذا بالتأكيد ما لا يشبه الشعب الفلسطيني، لا ماضيا ولا حاضرا، ولا يستجيب لأهدافه وتطلعاته على امتداد الوطن الفلسطيني، ومن شرّدته الغزوات الاستعمارية الاستيطانية خارج الوطن.
دولة فلسطين القادمة ليست منة أو منحة من أحد، والذين يعتقدون أنها سوف تكون ظلا من ظلال دولة الأغراب العابرين، واهمون. وواهم من يعتقد أن دولة فلسطين لا ضرورة لها في محيطها العربي، بل هي الضرورة القصوى لأن توجد، كونها أرضا تاريخية لأصحابها، وتاريخا أرضيا يتنافى مع تاريخ كهنوتي مختلق، قائم على الزيف والتحريف والتخريف الأسطوري، كما هي الرواية الصهيونية التي يُراد اليوم من يتصادق ويصادق عليها من أمثال أولئك الـ "إبراهيميين" الواهمين، من عرب باعوا هويتهم وأنفسهم لشياطين الشرق والغرب، ولأولئك العابرين الذين لن يتذوقوا يوما طعم الاستقرار فوق أرض تلفظهم وتلفظ خرافاتهم الكهنوتية وأساطيرهم وكل مروياتهم الزائفة عن وطن الآباء والأجداد.
دولة فلسطين القادمة ليست منة أو منحة من أحد، والذين يعتقدون أنها سوف تكون ظلا من ظلال دولة الأغراب العابرين، واهمون
ذاك الكيان الغاصب المسمى "إسرائيل" لم ولن يكون في أي يوم كيانا طبيعيا، فما قام على الاغتصاب والاستيطان لن يضحي طبيعيا على الإطلاق، إلا في نظر من لا يرون الاحتلال جريمة موصوفة، وقد بات أمثال هؤلاء كثيرين في أيامنا العربية السوداء الرديئة، تلك التي نشهد خلالها توارد الخيانات الوطنية وتواليها، وكأنها مجرّد وجهات نظر سياسية غير خاضعة للنقاش، لا يرى فيها أصحاب السلطة والسلطان والصولجان سوى كونها مجرّد زلاتٍ يمكن غفرانها وإيجاد المبرّرات لها، بينما هي في القانون الدستوري الوطني، وفي القيم الوطنية والمواطنية الصحيحة، انحرافاتٌ كبرى لا يمكن التسامح معها أو غض النظر عنها، كونها ارتكاباتٍ لا وطنية، تجب إدانتها ومحاكمتها وتجريمها، وإلا إذا ترك الحبل على الغارب، فلن يبقى للضوابط الوطنية أي أثر.
وما الأسرلة الحاضرة اليوم في بعض بلاد العرب، تطبيعا تحالفيا وعلاقات إخضاعية، وانسياقا أعمى خلف مرامي العدو وأهدافه القريبة والبعيدة، إلا النقلة النوعية في رؤية بعضهم لمسارات (وأسس) الصراع التناحري القائم على فلسطين، كل فلسطين القضية والأرض والشعب والحقوق التاريخية، وطعنة في ظهر أصحابها المجدّين حقا في الاحتفاظ بحقهم من أجل الإبقاء على جذوة الصراع مشتعلة، بدل الارتماء في أحضان العدو أو المضي في استجدائه "منح" الفلسطينيين بعض حقوق لهم في وطن كامل مكتمل، تعرّض للاغتصاب والاستيطان، ولسرقة تاريخية موصوفة.