فلسطين ليست للبيع في سوق النخاسة
تلقيت في أواخر سنة 2019 من وزير الثقافة الفلسطيني، عاطف أبو سيف، دعوة للمشاركة في ندوة عربية بعنوان "هل باتت الرواية ديوان العرب؟"، وتنعقد في ذكرى استشهاد الروائي والمناضل الفلسطيني، غسان كنفاني، فشكرت السيد الوزير على دعوته الكريمة وأبلغته اعتزازي بتلبيتها. ولكن لا شيءَ من ذلك تمَّ، إذ أخبرتني مديرة الندوة، بديعة زيدان، من رام الله أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية رفضت منح التراخيص لكتّاب كنت ضمنهم، فتأسفت لذلك أسفا شديدا، أحدث في صدري غصّة، كما تألمت لما يعاني منه الفلسطينيون يوميا من حيفٍ وحشيٍّ وطغيان مطلق عُنفي تحت احتلال إسرائيلي غاشمٍ بغيض، فبتُّ، من حين إلى آخر، أرفع عاقرتي مستغيثا: وامحـمداه! واعمراه!... واأيوباه!.. كما ردّدت في نفسي مرارا قصيدة فلسطين لعلي محمود طه وأخرى لأحمد شوقي "إلامَ الخلف بينكمُ إلامَ .."، كنت حفظتهما عن ظهر قلب منذ أيام العز.
.. يبدو تاريخ الفلسطينيين المعاصر كامتحان جسيمٍ عصيب لا تزال حلقاته، منذ إنشاء الدولة الصهيونية، تتلاحق على وقع أزماتٍ ومآسٍ ممضّةٍ عديدة، فأمام تخاذل حكوماتٍ عربيةٍ وميل أخرى إلى استعمال القضية الفلسطينية كورقة إيديولوجية أو تفاوضية لا غير، بقي الشعب الفلسطيني يعاني الأمرّيْن تحت نير دولة احتلالٍ وغصبٍ معزّزة بالدعم الغربي - الأميركي، تتقن سياسة الأمر الواقع في تكثير مستعمراتها وتوسيعها وفرض التنازلات من عرب التقاعس والخذلان، وإملاء شروط المفاوضة وإحلال "السلام" الموهوم. أما تأدية فواتير الصف العربي، فكانت وما تزال موكولة إلى الفلسطينيين، عبر طرق النفي والشتات ووسائل الردع والتخويف والتحجيم. ومجمل التاريخ الفلسطيني المعاصر، الذي ما زال ينزف دما، يحدونا إلى أن نطرح تساؤلاتٍ أخلاقية، وحتى نظرية مقلقة خطيرة، فتجاه منطق تلك السياسة الساحقة المكابرة (والتي انتقدها في حالة الدولة العبرية الجنرال ديغول)، كيف لنا أن نثق في مفاهيم الغرب عن العدالة الإنسانية، ونقيسها بمعياري الضرورة والشمولية؟ لماذا كل هذا الإصرار المتشدّد من حُماة إسرائيل على تخيير الشعب الفلسطيني بين المنافي أو الخضوع والحَجْرِ أو الاستشهاد؟
لماذا كل هذا الإصرار المتشدّد من حُماة إسرائيل على تخيير الشعب الفلسطيني بين المنافي أو الخضوع والحَجْرِ أو الاستشهاد؟
دولة إسرائيل، كما نعلم، مدينة وجوديا للحركة الصهيونية ولكتاب تيودور هرتزل، "الدولة اليهودية"، كما لوعد بلفور المشؤوم، غير أن هذه العناصر مجتمعةً ما كانت لتكفيَ، لولا نشطاء الهاغانا وإرغون الإرهابيين، قتلة الوسيط الأممي الكونت برنادوت، وبالأخص لولا دعم الولايات المتحدة المطلق اللامشروط، سواء في المجالين، الاقتصادي والعسكري، أو على الصعيدين، السياسي والدبلوماسي، في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، واستعمال أميركا المتواتر للفيتو لصالح ربيبتها، يبرّره تقرير للبنتاغون بأن هذا الكيان يحفظ مصالح القوة العظمى الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصا ضدا على عراق صدام حسين من قبل، وإيران وحزب الله من بعد في عهدنا هذا.
لا ريب أن هزيمة يونيو/ حزيران 1967 كانت حدثا جسيما، ولربما أكثرَ فداحة من هزيمة الثائر المصري، أحمد عُرابي، في التل الكبير على أيدي الإنكليز في 1882. إنها هزيمة لم تضمد جراحَها حرب أكتوبر في 1973 واسترجاع مصر صحراء سيناء، ولم ينسها زحف المد التفاوضي "السلامي"، الذي كان من فصوله البارزة أوسلو (1993) وكامب ديفيد (2000)، ففي وجدان الشعوب العربية وضمير قواها الحية هناك يقين بأن فقدان معركةٍ لا يعني بالضرورة فقدان كل شيء، بما فيه آمال الاستئناف وتجاوز الكبوات؛ وهناك أيضا وعي دفين بأن التاريخ حركة وسجال، لا يمكن إسدال ستارته عند فصلٍ من الفصول، أو إيقاف جدليته، بقرار من المنتصرين أو إذعان من المطبعين الانهزاميين المستسلمين؛ وهناك أخيرا وليس آخرا اقتناع متنامٍ بأن مواجهة اسرائيل، القوة النووية الوحيدة في المنطقة والمدججة بكل صنوف الأسلحة المتطورة الفتاكة لا تصحّ وتدوم إلا باستعمال حرب الانتفاضات والاستنزاف وبالتزود أيضا بالسلاح الديني والروحي (الذي لا تتوانى الدولة العبرية في تملكّه وشحذه وتسخيره)، والغاية، على مدى المستقبل المنظور، هي استرجاع كل الأراضي المحتلة في يونيو 1967، وإقامة دولة فلسطينية حرة مستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
تنبّه الرأي العام الفلسطيني والعربي إلى أن الساسة الإسرائيليين من حزب الليكود أو حزب العمال إنما يتوخّون من مفاوضاتهم فرض سلام على مقاسهم
ولا شك أن منظمة التحرير الفلسطينية، بقيادة الزعيم الشهيد ياسر عرفات، قد ترسمت تلك الغاية، حين اضطرت إلى الدخول في مسلسل مفاوضات مع إسرائيل، برعاية أميركا بيل كلينتون، وذلك بُعيد حرب الخليج الثانية، وقامت بتنازلات صعبة، بحيث تنبّه الرأي العام الفلسطيني والعربي إلى أن الساسة الإسرائيليين من حزب الليكود أو حزب العمال إنما يتوخّون من مفاوضاتهم فرض سلام على مقاسهم. وذلك في مقابل التخلي عن نسبة من الأرض التي احتلوها في 1967، كما لو أن قصتهم مع الفلسطينيين والعرب نشأت بدءا من هذا التاريخ فقط، حتى إذا قام كيان فلسطيني، ممثلا بدولة أو ما يشبه الدولة، وجد نفسه محاصرا بالمستوطنات المتنامية والطرق المعبّدة الالتفافية وقوى الجيش الرقيبة المتربصة .. ومن شأن هذا كله أن يحصر الوطن الفلسطيني في مجرد إقليمٍ، شبيهٍ بسجنٍ مسيّجٍ مفتوح على السماء، ويفرغ دولته من كل مقومات السيادة والاستقلال، لتكون جهازا إداريا للحكم الذاتي، مكلفا بتثبيت الأمن، بما فيه أمن إسرائيل. وكلّ العروض والوعود الإسرائيلية هي التي سعت تل أبيب، منذ اتفاقية غزة وأريحا أولا، إلى ترسيخها وتلميعها في مفاوضاتها مع منظمة التحرير، وذلك حتى في عهد العمالي، إيهود باراك (ومعناه لغةً البرق). وإن تلك الوعود والعروض، وفي آخر التحليل، وقياسا إلى عمق القضية التاريخي، ما كانت سوى برقٍ خُلَّبٍ وجُفاء؛ وهذا ما انتبهت إليه وفضحته شرائح من النخبة الفلسطينية المثقفة، وعلى رأسها المفكر والبحاثة الراحل إدوارد سعيد الذي شرَّح اتفاقيات أوسلو المذكورة، وثابر في نقد بنودها وأساسها المهزوز اللاّمنصف. وقد جاءت انتفاضة المسجد الأقصى المباركة لتصدّق ما ذهبت إليه تلك النخبة، كما أنها ألقمت دعاة التطبيع الحجَر، لا سيما وأن قوى إسرائيل أظهرت للعالم عبر صور الأقمار الصناعية، وبالحجج المادية، ما هي قادرة عليه في ممارسة العنجهية القاتلة والوحشية القصوى. وكل التطورات المتمثلة في القصف الجوي والبحري في قطاع غزة والضفة الغربية تؤكد ذلك، وتبين إلى أي مدىً تذهب إسرائيل في استرخاص أرواح الفلسطينيين، وتعمّد القتل الجماعي الممنهج، في حين أنها أقامت الدنيا ولم تقعدها، لما أسر حزب الله ثلاثة من جنودها وفجّر المتظاهرون الفلسطينيون بعض غضبهم على أربعة آخرين في رام الله.
المروجون العملاء في أيامنا لدعوة التطبيع، أقل ما نقول عنهم إنهم ضعيفو الذاكرة، ناقصو الوعي التاريخي، منزوعو السيادة، عديمو الإحساس بقيم المسؤولية والعدل والإنصاف
إن المظاهرات الحاشدةِ المتعدّدة من أجل فلسطين في معظم البلدان العربية، والتي لها تاريخ مديد، لتدلّ على أن الشعوب في المشرق والمغرب ما زالت مرتبطةً بالقضية الفلسطينية ارتباطا وجوديا ووجدانيا وثيق الوشاح والعرى، وأن جذوة تعلّقها بالأماكن الإسلامية المقدسة لا يمكن أبدا أن تنقص أو تفتر. كما أن تلك المظاهرات الغاضبة ترسل رسائل عديدة، منها واحدة إلى الحكام العرب، لترغيبهم في الإنصات إلى ضمير شعوبهم النابض، والعمل على تلبية مطالبهم وتطلعاتهم؛ ومنها ثانيةً إلى القوى السياسية والمدنية، من أجل أن تقف صفا واحدا متراصّا في القضايا المصيرية الكبرى؛ ومنها أخيرا وليس آخرا رسالة إلى رؤوس مطبّعينا ورموزهم، حجّاج إسرائيل، حتى يعودوا إلى رشدهم، ويحترموا مشاعر مواطنيهم، فيُعرضوا عن اللهث والهرولة وراء حساباتٍ سياسويةٍ ضيقة، أو وعود واتفاقيات سلام عرقوبية، هي والزيزفزن على حد سواء، تحدوهم إلى اعتماد قِصَرِ النظر والذاكرة، وإلى التنكر لوحدة الانتماء التاريخي وعلاقات القرابة والتجانس. وأملنا أن يتأملوا كلماتٍ بيناتٍ صادقة للمستشرق الكبير الراحل، جاك بيرك، والتي يعلل بها وقوفه إلى جانب القضية العربية - الفلسطينية: "إني لا أرى أيَّ تبرير معقول لمعاقبة العرب على الجرائم النازية، كما لا أرى أيَّ حجة معقولة لإقامة حركة توسعيةً إسرائيلية في الأزمنة الحاضرة على ذكريات توراتية" (مذكرات الضفتين، ص 199).
في بعض أوساطنا المغربية، وحتى خارجها عربيا، تتعالى أحيانا أصواتٌ نشاز تدعو إلى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، أي الاعتراف بوجوده وإقامة علاقات "عادية"، كما مع مجمل بلدان المعمور، ديبلوماسية واقتصادية وثقافية وسواها؛ فمن مثقفٍ يكتب أنْ ليس بين المغرب والدولة العبرية مشكلات، ومن زمر باتت تل أبيب والقدس الغربية ومدن أخرى قبلةً يحجّون إليها متى تملّكهم الشوق والحنين، ويجولون فيها معجبينَ خاشعين، آخذين لهم صورا مع العَلَم الإسرائيلي ورموز سيادية أخرى؛ هذا فضلا عن عيّنة من أهل الثقافة والإعلام المغاربة، وهم قلة وشواذ، زاروا خلال القرن الماضي إسرائيل، والتقوا فرحين فخورين ببعض فطاحلها وصقورها، من أبرزهم الوزير الأول الأسبق شمعون بيريز الذي أقدم، طمعا في ولاية ثانية وتزلفا لليمين الاستئصالي، على الأمر بعملية "عناقيد الغضب" (أبريل/ نيسان 1996) وبمذبحة قانا جنوب لبنان، أغلب ضحاياها أطفال ونساء وعجزة، هربوا مروَّعين إلى ملجأ تابع لهيئة الأمم المتحدة. ومن أولئك "الحجّاج" من ندموا على فعلتهم، حيث لا ينفع الندم لنسيانها أو التفكير عنها، ومنهم اليوم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ذليلا مهانا.
أما المروجون العملاء في أيامنا لدعوة التطبيع، فإن أقل ما نقول عنهم إنهم ضعيفو الذاكرة، ناقصو الوعي التاريخي، منزوعو السيادة، عديمو الإحساس بقيم المسؤولية والعدل والإنصاف، وهذا التوصيف هو ما بات حديثا ينسحب، وبشدة أخطرَ، على بلدين عربيين، الإمارات والبحرين. وإذا ما استخضرنا ذكرى الشيخ زايد بن سلطان، مؤسس هذا الاتحاد على ركنين لا انفصام لهما: العروبية هويةً والإسلام مرجعية. ولعمري إن هذا المؤسس العظيم، رحمة الله عليه، لنحسبه، متمثلين عقيدته السَّنِيَّة وعقله المستنير، براءً مما اجترحه أعقابُه المخلفون، فمن أمحل المحال أن يرضى عنهم وعن ردّتهم ولا أن يعدهم بالتالي من سلالته الطاهرة التليدة. ويذكر تاريخ القرن العشرين للشيخ زايد وقوفه المادي والمعنوي إلى جانب مصر في حرب أكتوبر 1973 التي عبَر فيها جيشها قناة السويس، وانتصر على الجيش الإسرائيلي، مكسّرا أسطورة قوته التي لا تقهر. كما أن الشيخ زايد كان من أشد القادة العرب دفاعا على وجوب استعمال "سلاح النفط" ضد حماة الدولة العبرية الغربيين بإيقاف تصدير الذهب الأسود إليهم، ما أحدث عندهم أزمة اقتصادية خانقة غير مسبوقة .. وللحديث بقية.