فلسطين شامية ليست فارسية
كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.
من موروثنا الشعبي، أن امراة وهبت ذهبها وحليها من أجل تيسير عسر، فقالوا عنها إنها أكرم من حاتم طيء، فالذهب بالنسبة للمرأة كالفرس بالنسبة للفارس، وقيمة النبل في التبرّع به تفوق قيمته ذهبا، فكيف إذا كانت الغاية مساعدة لاجئ في خيمة بدولة أخرى؟
ما قاد الكاتب إلى هذه المقدمة الحملة التي أطلقها ناشط فلسطيني من بلدة البعينة، واسمه إبراهيم خليل، بالتعاون مع جمعيات أهلية في الداخل الفلسطيني، حملة تكافل مجتمعي، لا يقف خلفها أي تيار أو حزب أو جهة رسمية، أطلقت عبر وسائل التواصل الاجتماعي لصالح أحد مخيمات الشمال السوري، بهدف تأمين مدافئ لسكان هذا المخيم الصغير، لاقت الحملة تفاعلا فاق التوقعات، من كل الفئات والطبقات، وتوسّعت أهداف الحملة، لتتحول إلى نقل سكان الخيم إلى بيوت، ثم تطوّرت إلى إغاثة ثلاثة مخيمات، ثم اتسعت إلى أن تتكفل كل بلدة فلسطينية بمخيم، لكن ما كان لافتا في الحملة تبرع فلسطينيات بالذهب، بعضهن عرائس قلن إنه ذهب العرس. أخريات جدّات قلن إنه من "ريحة الحبايب". .. وهكذا لكل قطعة قصة وذكرى وشعور.
تبيع النسوة حليهن في الشدائد وحين يكون المصير مهددا، لتمويل جيش أو تحرير مدينة أو أسير، أو فك محكوم، والمرأة عندما تفتدي شيئا بذهب إنما تفتديه بجزء من روحها، قلبها، ذكرياتها، ومستقبلها. إذاً هو أثمن لديها من الذهب والجواهر، فهل رأت الفلسطينيات في المخيمات السورية جزءا من ذاكرتهن وذاكرة أمهاتهن وجدّاتهن في المخيمات الفلسطينية، بل هل رأين فيها جزءا من حاضرهن ومصيرهن؟ هل أردن لشعب الخيام السورية مستقبلا أفضل مما كان لشعب الخيام الفلسطينية؟
من باع دمشق وبغداد لن يشتري القدس، من دمر بيروت وحلب وصنعاء لن يبني القدس، والذي قتل الأطفال في درعا هو شقيق قاتل الأطفال في حيفا
المظلوم هو أكثر من يشعر بمعاناة المظلوم في الحياة. لذلك، التفاعل الذي حدث في هذه الحملة من فلسطينيي الداخل مؤشّر واضح وجلي على أن بوصلة الشعوب لم تته عن أوطانها، في زمن التيه السياسي للحكام والحكومات، وفقدانهم البوصلة السياسية بمبرّرات الإبحار نحو شط السلام والأمان والرخاء، وهم يبحرون في بحرٍ لا شط فيه ولا مرسى لشعوبهم وحرّيتها وكرامتها، فقد استخدموا القضايا الإنسانية لأنسنة أنظمتهم المتوحشة، وتجميل سياساتهم الهدّامة في أعين شعوبهم والشعوب المظلومة، وأفشلت ذلك نساء فلسطين ورجالها في هذه الحملة الشعبية، لأن الشعوب، بفطرتها وفطنتها، تلتقط الإشارات، وتستطيع التمييز بين فعل خير في سبيل الإنسانية وآخر في سبيل صاحب السعادة، وكأنهم يقولون لهم: لن نسمح لكم باستغلال حاجتهم لاختراق قلوبهم وتطهير ضمائركم من خذلانهم كما خذلتمونا عقودا.
استغلوا القضايا الوطنية لتبرير تبعيتهم لتلك الدولة وذاك المحور بمبرّرات الحاجة والحصار تارّة، والمقاومة والتحرير تارة أخرى، فكشفت نساء فلسطين ورجالها زيف مبرّراتهم، وأسقطتها، وأسقطت معها رايات، تيارات وقيادات، وقالت فلسطين من باع دمشق وبغداد لن يشتري القدس، من دمر بيروت وحلب وصنعاء لن يبني القدس، والذي قتل الأطفال في درعا هو شقيق قاتل الأطفال في حيفا. وقاتل حمزة الخطيب هو حليف قاتل محمد الدرّة.
المتاجرة بمظلوميات الشعوب ورموزها منذ زمن الحسين لم تعد تصدّقها الشعوب، لأن الأفعال مناقضة تماما للخطابات الرنانة
تدرك فلسطين جيداً أن الذي قاول بالمقاومة في القصير والزبداني هو شريك من فتك بالمقاومة في تل الزعتر والحاصباني، والمتاجرة بمظلوميات الشعوب ورموزها منذ زمن الحسين لم تعد تصدّقها الشعوب، لأن الأفعال مناقضة تماما للخطابات الرنانة، وقد تبين جلياً أن الصدع بقولة إمام المظلومين الحسين بن علي: "هيهات منا الذلّة" ما هو سوى ستار لتغطية مسرح الجريمة في سورية من قتل وتشريد لورثة الحسين الشرعيين والتاريخيين في الذود عن كراماتهم، والوقوف بوجه المستبد الظالم، فالذي انتهك قيم الحسين في الكرامة والحرية، وقتل وشرّد ورثته الشرعيين عندما ناصر الظالم على المظلوم، كرمى هُبل وغرائز أتباع هبل، لم ولن يكون مقاوما في سبيل تحرير الشعوب وحفظ كرامات المظلومين. وفلسطين تدرك ذلك جيدا، لذا عندما رفعت صور قاسم سليماني في بعض المدن الفلسطينية، رفع المقدسيون صور عبد الباسط الساروت في بيوتهم وساحاتهم، وكانت الرسالة واضحة وجلية ومباشرة. وحين صرح أحدهم إن سليماني شهيد القدس، رفع المقدسيون راية الثورة السورية، وصدحت أزقة القدس وأسواقها بأهازيج الثورة "جنة جنة جنة يا وطنا" و"يا شام إنت شامنا".
إذاً على الرغم من كل جراح أهل فلسطين وعذاباتهم، وعلى الرغم من كل ما تم ضخه إعلاميا لتسويق التطبيع بدون ثمن، وتبرير التبعية، بمسمّيات الواقعية السياسية والسلام من جانب، وبحجة الصمود والمقاومة من جانب آخر، بقيت الرؤية واضحة للفلسطينيين. لم تتشوّه مداركهم. ونحن نتحدّث هنا عن جيل فلسطيني نشأ وترعرع تحت الاحتلال أكثر من سبع عقود، وعلى الرغم من ذلك ما زال يدرك ماهية المتاجرين بقضيته، بل هو اليوم أكثر إدراكاً للأقنعة التي تلبسها الأنظمة والقيادات، والرايات التي يتوزعونها، وما كان تفاعل حرائر فلسطين قبل رجالها مع هذه الحملة العفوية لدعم أشقائهم السوريين في المخيمات إلا مؤشراً دقيقاً على وضوح البوصلة وعمق الانتماء ووحدة المصير، وبأن فلسطين تعرف قبلتها، فلسطين تعلن أنها شامية ليست فارسية، ولن تكون.
كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.