"فلسطين جديدة في قلب الصحراء"

"فلسطين جديدة في قلب الصحراء"

05 مايو 2024
+ الخط -

يتعلّق الأمر بتقرير يجعل من "الصحراء"، بسبب احتلال الإسبان لها منذ أوائل القرن التاسع عشر، فلسطين المحتلّة من الصهاينة منذ بداية القرن العشرين تقريباً. وهي ممَاثَلَةٌ أو مُعَادَلَة تنتهي، من خلال تقديم المعطيات العامة المتعلقة بالموقع والسكّان والتاريخ والموارد الاقتصادية والتركيب الاجتماعي إلخ، إلى النتيجة نفسها المُسَطَّرَة في مشروع الثورة الفلسطينية، أي الكفاح المسلّح من أجل تخليص الأرض ودحر العدوّ. الواضح هنا أنّ الأمر يتعلّق، في هذا الاستخلاص الميكانيكي، بتحرير الصحراء وإسقاط النظام الملكي في المغرب.

نُشر التقرير في مجلّة أنفاس المغربية في أواخر سنة 1971 (العدد المزدوج: السابع والثامن)، ولم يُمْهَر بأيّ اسم، لأنّه كان من المعروف للمشرفين على المجلّة أنّ فئةً من الشباب الصحراوي كانت تتهيّأ في تلك المرحلة للقيام بدور سياسي على علاقة بقضيّة الصحراء، أشرفت عليه، فصاغه الوالي مصطفى السيد (1948 - 1976)، أكثرهم دينامية وأقربهم إلى بعض مناضلي الأنوية اليسارية الوليدة، على الوجه الذي نشر فيه، إلا في ما يخصّ بعض تفاصيل صغيرة قد تكشف عن أمور جليلة في البحث والمناقشة. وأكثر ما قد يُفاجِئُ في التقرير أنّه يفتتح الكلام بـ"نعم" التي تعني التوكيد بإطلاق، أي ما معناه: إن كان القائل/ الكاتب واعياً بالأبعاد الثاوية خلف التعبير والمعنى المقصود، فإنّه لا يُعْلِمُ بشيء بعد الاستفهام. ولو فَسَّرْنا ذلك على الوجه السياسي، وفي ارتباط أيضاً مع التصورات الأيديولوجية التي كانت لفئة من اليسار (وبعض أصدقائهم الصحراويين) في تلك المرحلة، لقلنا بوضوح إنّه مصادرة على وَعْيٍ أو فَهْمٍ أو معرفة لم تكن شائعة ولا متبلورة إلا بالنسبة إلى مَن أعَدَّ التقريرَ المشارِ إليه وهيّأه للنشر، علماً أنّ المُشَبَّه به؛ فلسطين، في علاقة بِوَجْه الشبه، تنبني على صفتين أو أكثر، أي خضوع الصحراء للاحتلال كما هي فلسطين خاضعة له، وضرورة التحرير مهمةً ملقاةً على عاتق العاملين في سبيلها، هنا وهناك.

وفي ما يتعلق بذلك، كان الوعي بالقضية الفلسطينية، قضيةَ تحرير من الاحتلال الصهيوني الغاصب، واضحاً وَمُدْرَكَاً، وفيه عناصر كثيرة بارزة، وفي مقدمها وجود قِوَى فلسطينيةٍ مُنظّمةٍ تعمل من أجل ذلك، ولو بناءً على اختيارات مُتناقِضة. ولم تكن قضية الصحراء، بكلّ تأكيد، على هذه الحال إلا في ما يرجع للاحتلال الإسباني لتلك الأرض منذ أن وصل إليها، ضمن قسمة استعمارية مُرتّبة في أوائل القرن التاسع عشر (1884)، أي عَارِيَةً، أيضاً، من الرمزية التي كانت العوامل الأساسية الفعَّالة (الأرض والشعب والتنظيم والكفاح المسلّح) في المعارك التي تُخاض ضدّ الأعداء.

كان الوعي بالقضية الفلسطينية، قضيةَ تحرير من الاحتلال الصهيوني الغاصب، واضحاً وَمُدْرَكَاً

بناءً على هذا، يبدو أنّ التقرير صيغ في ضوء التصوّرات الأيديولوجية التي كانت شائعة في الوعي اليساري المُعَمَّم، إلى حدّ ما، في أوساط الشباب الجامعي، وفي الفترة التي صيغ فيها، في علاقة بالثورة الفلسطينية، من الزاوية الوطنية أو بصورة أوضح، ما كانت تعنيه الوطنية في تلك المرحلةِ لليسار نفسه، وللقِوَى المُسمّاة "الإصلاحية" و"التحريفية" المعارضة للسلطة الموصوفة، بدورها، بأنّها رجعية ولا شعبية ومستبدّة وتابعة ولا وطنية، وغيرها. ومعروف أنّ المُؤتمر الثالث عشر للمنظمة الطلابية (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، يوليو/ تموز 1968) هو الذي أوجد لأوّل مرّة لجنة خاصة بالقضية الفلسطينية، وأنّ المُؤتمر الرابع عشر، بعد ذلك (أغسطس/ آب 1969) هو الذي أقَرَّ، باقتراح وإلحاح جبهة الطلبة التقدميين، تلك الصيغة التي أصبحت على كلّ لسان، أي "فلسطين قضية وطنية"، مُلَوّحاً بدعم الثورة الفلسطينية المسلّحة عسكرياً وسياسياً، وربط نضال الشعب الفلسطيني بنضال الشعب المغربي في استراتيجية الثورة العربية. بينما لم يكن لقضية الصحراء في الوعي اليساري أيّ حضور أو قل كان لها بعض حضور في تناظرٍ مع السياسة التي اتبعتها سلطة الحكم، عندما تبيّن لها عمليّاً أنّ إسبانيا عازمة على خلق كيان جديد في الصحراء، تُسْند قيادته، بناءً على الهيمنة التي افترضَتْهَا لاستمرار وجودها ومصالحها في المنطقة، إلى فئات صحراوية من الوجهاء، ساهمت في تكوينهم وتدريبهم وضمان ولائهم الوَاجِبِ أو التام.

يمكن أن يُرى ذلك أيضاً، من زاوية أخرى، أي في علاقة بالأهداف الاستراتيجية التي بلورها اليسار الوليد في مستوى التصوّر، وكانت فيها الثورة على النظام القائم، وإحلال جمهورية ديمقراطية شعبية محلّه، من العناصر الجوهرية المُحدِّدَة للعمل السياسي النضالي، وبناء التحالفات، ورسم المهمات الاستراتيجية الحاسمة. ويبدو أنّه لم يكن من الوارد بتاتاً أن يَتَّفِقَ هذا اليسار بسهولة، رغم أنّ فئات منه فعلت ذلك بمبرّرات ظرفية، مع السياسة النظامية التي اتُّبِعَت في المطالبة بالصحراء، وتنظيم المسيرة الخضراء فيما بعد (1975)، لبسط سيادة الدولة عليها بصورة نهائية. بينما كانت القوى المسماة "الوطنية والتقدمية" المُعارِضَة، علاوة على أنّ نشاطها السياسي، من الناحيتين الشرعية والديموقراطية، كان محاصراً بفعل حالة الاستثناء التي خيّمت على البلاد سنة 1965، بوعي شامل أو كبير، بدرجات متفاوتة بين مكوّناتها، بأهمية القضية الصحراوية، وربما كان موقف حزب الاستقلال بالذات، بحكم التصوّر الذي بلوره الرئيس علال الفاسي (1974)، ودافع عنه بصورة علانية من خلال جريدته "صحراؤنا" (1958)، أكثر المواقف أهمّية، لا يدرك بالوعي فقط، بل وبالشرعية التاريخية المبنية على "التصور الإمبراطوري" كذلك.

المُؤتمر الثالث عشر للمنظمة الطلابية (الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، يوليو 1968) هو الذي أوجد لأوّل مرّة لجنةً خاصةً بالقضية الفلسطينية

بناءً على هذه الإشارات، كان الغرض من المماثلة بين القضية الفلسطينية والصحراء في ضوء "الاحتلال" منطلقاً، و"الثورة بالكفاح المسلّح" هدفاً، كما يمكن الاستنتاج من التقرير نفسه، القول بنوعٍ من "الشرعية الثورية" التي كانت مطلوبة للبرهنة على الأحقيّة النضالية في المواجهة (التحرير) مع إسبانيا، التي كانت تحتلّ الصحراء بالفعل، وفي وجه النظام المغربي نفسه (ومعه النظامان الموريتاني والجزائري، كما يمكن الاستنتاج من الديباجة). ولم تكن مُسَوِّغات الالتقاء مع بعض المنطلقات الأيديولوجية لـ"ليسار الجديد" في المغرب، ومن ذلك نشر التقرير في مجلة اليسار نفسه (أنفاس)، إلا لإعلان التميُّز، والاستفراد بالهوية الصحراوية، التي كانت في حاجة إلى منطلقات وحجج، وَصَوْغِ أهدافٍ وتبريرِ وجودٍ، في بداية الوعي بتميزها أو فرادتها، وهو ما تُرْجِمَ، في بداية الأمر، بالبحث عن الحلفاء الداعمين، فكان أخلصهم زعيم "الثورة الليبية" في بداية الأمر، وهو على عداء كبير مع النظام المغربي، ثم كانت دولة الجزائر أكثر حزماً وإخلاصاً في الذهاب بالصحراء إلى أقصى حدود الوهم، أي المساندة التامة من أجل إعلان "الجمهورية" والدخول مع المطالبين بها في الحرب الرامية إلى تحرير الأرض المسماة بلغة الانفصال "الصحراء الغربية".

وبطبيعة الحال، كان لذلك كله بواعثه الخاصة، في إشارة من كاتب هذه السطور إلى أنّ الدعم الليبي للشباب الصحراوي تزامن مع الصراع الذي نشب بين المغرب وليبيا بعد الانقلابين الفاشلين على النظام الملكي في المغرب، علماً أنّ العداوة كانت قد ظهرت، بصورة أوّلية، منذ انقلب العقيد معمّر القذافي على الملكية السنوسية، مُعلناً في العالمين نياته الناصريّة بقوّة وخفّة، قبل أن يُترجمها، بطريقة سريالية، في "الكتاب الأخضر" بسنوات، هادفاً من ورائها إلى دعم مختلف المعارضات السياسية والمسلّحة، حيثما ظهرت. يضاف إلى ذلك أنّ ليبيا كانت تحتضن، على نحوٍ ما، فئة من المعارضين السياسيين الذين جرّبوا سابقاً أكثر من محاولة لقلب نظام الحكم في المغرب، منذ أواسط الستينيات. ويمكن قول الشيء نفسه عن الجزائر في ما يرجع إلى الدعم الشامل، مع الاختلاف الذي كان قد أصبح حقيقةً في العلاقة الاستثنائية الملغومة مع المغرب، منذ ما قبل انقلاب هواري بومدين على رفاقه العسكريين والمدنيين في 1965، أي من خلال اجترار ظروف حرب الرمال (1963) ونتائجها، وما رافق المرحلة الاستقلالية من تناقضات وطموحات أقامت ما دُعِي بالنظام الاشتراكي الذي هيمن، بصورة ميكانيكية، على مختلف التصوّرات؛ اقتصادية واجتماعية وسياسية، التي سُنَّت بقوة المؤسسة العسكرية وجبروت حزبها الوحيد (جبهة التحرير). ومن هذه الزاوية أصبحت الصحراء، التي احْتَلَّت موقع القضية الفلسطينية في الوعي الأيديولوجي، صيغة يسارية تبريرية لنقد نظام الحكم السائد في المغرب، وتعرية الاستعمار الجاثم على الصحراء، وبناء التحالفات التي استطاعت، في وقت محدود، إطلاق "البوليساريو - الجيش"، وإعلان "الجمهورية - الدولة"، وتفجير "الحرب - الانتقام" التي ما زالت تعيش بيننا، بمختلف الأشكال التي تحيل عليها يومياً، منذ أزيد من خمسة عقود.