فلسطين الأوروبية أو الاستعمار الفلسطيني لفلسطين
تتدحرج النكتة السخيفة من أفواه السياسيين والمعلّقين الصهاينة، إلى أبواق المتصهينين في دوائر السياسة والإعلام العربيين: الفلسطيني يروّع المدنيين الإسرائيليين في ديارهم، ويقتحم حدودهم ويعتدي على أراضيهم!.
حين تستمع إلى إبراهيم عيسى، أو أيّ معلّق صهيوني يسكب وقاحته وبجاحته فوق رأس مذيع في قناة الجزيرة، متحدّثًا عن حركات المقاومة الفلسطينية باعتبارها طرفًا معتديًا على الإسرائيليين والفلسطينيين، معًا، تشعر وكأنّ هؤلاء الفلسطينيين غزاة قادمون من أوروبا، احتلّوا أرضًا ليست لهم واستعمروها وجلبوا مجموعاتٍ من البشر المنتشرين في شتات العالم للاستيطان فيها، على حساب سكانها الذين هم هنا الإسرائيليون المسالمون المجني عليهم!.
نحن هنا بصدد التاريخ مقلوبًا ومعكوسًا في أكبر عملية تزييف للوقائع في مسيرة البشرية كلّها، وهي حالة تنطبق عليها صيحة صلاح عبد الصبور الخالدة، هذا زمن الحق الضائع، إذ يُصاب المرء بالحيرة، وهو يطالع ما حوله من خطاب صهيوني وآخر متصهين هو أشدّ خطورًة ومدعاة للقرف منه، يتردّد على ألسنة عربية، يتقاطعان حول مضمون واحد: المقاومة فعل اعتداء، بينما الاحتلال ردّة فعل لهذا الاعتداء، وكأن مقاومة الاحتلال وجدت على أرض فلسطين قبل أن ينشأ الاحتلال نفسه.
هذا الهراء يتردّد كذلك في الميديا الأميركية والأوروبية، ليس عن جهل منها، وإنّما من باب الإلحاح على الأكاذيب التاريخية الشريرة حتى تتحوّل إلى حقائق مفروضة بقوة الابتزاز والإرهاب الإعلامي، أو قل قوة الصفاقة، وهي الصفاقة التي يحاول التصدّي لها عدد من أصحاب الضمير في البلدان الغربية على مرّ الزمان، ومن هؤلاء سياسي وصحافي بريطاني تصدّى لهذا الكذب المصنوع في منتصف القرن الماضي، فأصدر كتابًا ضخمًا سبق أن أشرت إليه، وهو كتاب "فلسطين... إليكم الحقيقة"، لمؤلفه البريطاني تأليف ج م ن جفريز. الذي ترجمه أحمد خليل الحاج، وصدر في أجزاء (الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة 1971).
هذا الكتاب الذي عثرت عليه مصادفة في منتصف تسعينيات القرن الماضي على سور الأزبكية بالقاهرة، لا وجود له في المكتبات العربية والغربية على حدّ سواء، عن تعمّد بالقطع. ولعلّ السبب يكمن في سطور كتبها المترجم في مقدمة الكتاب، تقول "لا يتناول المشكلة الفلسطينية كمشكلة سياسية وحسب، بل كجريمة دبّرت عن عمد واقترفت مع سبق الإصرار والترصد بدوافع قد لا تكون خافية علينا ولكننا لا نملك عليها أدلة قاطعة لأنّ الجناة قد فعلوا ما في وسعهم لإخفاء هذه الأدلة بهدف طمس معالم الجريمة".
وقد استطاع الكاتب، بما توافر له من سعة الاتصال بدوائر الحكومة البريطانية، بحكم عمله صحافيا، وبحكم صداقاته مع أناسٍ في الإدارة البريطانية ذوي ضمائر حيّة أن يحصل على هذه الأدلة من الخزائن الحديدية السرّية للجناة، فصاغ منها وثيقة اتهام دامغة وطالب الشعب البريطاني بأن يتبوّأ مقاعد القضاة، وأن يعقد محاكمة للجناة الذين اقترفوها باسمه، وتطوّع هو نيابة عن التاريخ والشرف والكرامة الإنسانية والضمير الإنساني والحق العام بتمثيل هيئة الادعاء العام. أمّا المؤلف البريطاني نفسه فيقول في مقدّمة كتابه "إنّ مسألة فلسطين هذه تدنّس كلّ مجهود تقوم به بريطانيا سعيًا وراء الخير في النواحي الأخرى، إنّ الشعب البريطاني لا يدري إلى أي مدى كبير تناقش أفعالنا التي اقترفناها في فلسطين بالبلدان الأخرى، وأي طعم من الرياء تعيره لأصدق مشاعرنا.. فكيف لنا أن نرفع أصواتنا بالاحتجاج على معسكرات الاعتقال في بروسيا حين تكون لنا في فلسطين معسكراتنا؟ وكيف نستطيع أن نستنكر طرد الألمان لليهود حين نقحم اليهود على العرب بالعنف نفسه؟ وكيف يمكن لنا أن نتباكى على أناس يودعون في السجون بلا محاكمة حين ننفي ونسجن ونعدم رجالًا في فلسطين بلا محاكمة؟".
كتابٌ على هذا النحو من القيمة والأهمية كان طبيعيًا أنّ الصهاينة وشركاءهم من رجال الدولة البريطانيين والأميركيين وغيرهم من الاستعماريين لم يتركوا أي وسيلةٍ يمكن وأده بها إلا لجأوا إليها.. لقد اشتروا طبعاتٍ كاملةً منه وأحرقوها، وحين تبيّن لهم أن الوسيلة ليست نافعة، لجأوا إلى المكتبات البريطانية والفرنسية والأميركية، فاشتروا ذممها بعمولة عدم بيعه على أن تكدّس الكتاب لديها، وتُنكر وجوده على طالبيه، وكذلك فعلوا مع شركات التوزيع.
وكما يذكر المترجم، فإنّ الحكومة البريطانية التي كانت تضطلع بالحكم، حين صدر، قد حاولت أن تمنع نشرَه بصورة مغايرة، لقد حاولت أن تستغل شهامة الرجل الوطنية، فأرسلت إليه من يناشده باسم بريطانيا التي تمرّ بمحنةٍ عظيمة، بسبب شبح الخطر النازي الفاشي الذي كان يخيّم على أوروبا، ويتهدّد الوطن البريطاني، ألا ينشر هذا الكتاب في ذلك الحين 1939.
مرّة أخرى: هل تمتلك المؤسّسات العربية الثقافية الشجاعة لكي تبحث عن أجزاء هذا الكتاب/ الوثيقة، وتعيد إصداره مترجمًا إلى كلّ لغات العالم؟.