فضائح الشهادات العليا للعراقيين في لبنان
إذا كنتُ قد طالبتُ قبل سنوات مضت بغلق الدراسات العليا في العراق جرّاء ما حاقَ بها من ضعف، فإنني اليوم أناشد وزارة التعليم العالي العراقية سحب الاعتراف ليس من ثلاث جامعات لبنانية خاصة: الجامعة الإسلامية والجامعة الحديثة للإدارة والعلوم وجامعة الجنان، بل ومن غيرها من الجامعات (العربية) الخاصة في الشرق الأوسط وأوروبا الغربية أيضا، وأغلبها جامعات "تجارية" لا وجودَ لها إلا على الإنترنت، ولم تتوّفر فيها أيّة معايير علمية، بل أقامها بعض الساعين إلى الحصول على المال فقط بأسلوب الاحتيال. وإذا كانت المشكلة قد تفاقمت اليوم، بحيث غدت أزمة انعدام أخلاق وفقدان قانون خارجة عن السيطرة، ما زاد الابتذال في مجتمعاتنا العربية بحكم حالات التردّي في كلّ مناحي الحياة.
زاد "الاضطراب" في قطاع التعليم العالي الخاص من الالتباسات في القطاع العام، بحكم تغلغل العناصر الرديئة في الجامعات الرسمية وإداراتها. وهذا ما تعاني منه وزارات التربية والتعليم العالي، وقد فضحت الأزمة اليوم في العراق، وكشفت ضخامتها، ومن الصعوبة استئصالها، فهي ليست حديثة العهد، بل يعود الخلل إلى سنوات مضت، فالموضوع ليس بيع الشهادات وتزويرها بقدر ما هي مسؤولية أنظمة تعليمية متهرئة، ووزارات تلاعبت بها سياسات خالفت فيها معايير وشروط الحصول على الشهادات الدنيا والعليا معاً، وخصوصاً ما تضمنته مرحلتا الماجستير والدكتوراه.
اللوذ بالصمت "المشبوه" لا يستدعي الدهشة في قطاع خطير جدّاً في الحياة العربية متروكٍ لمصيره
ليس مهما ما يصدر عن مسؤولين في السلطات اللبنانية في هذا الصدد، فهم يعانون أيضاً من اضطرابٍ في عددٍ من جامعاتهم الخاصة والمتنوعة، والتشكيك في مصداقية شهادات تلك الجامعات اللبنانية. وإنما المهم ما ستتخذه السلطات في وزارتي كلا البلدين، لبنان والعراق خصوصا، والبلدان العربية عموماً، فالدفاع عن الخطأ لا يجدي نفعاً، وعدم الاعتراف بهذه الشهادات لن يوقف هذه "الجامعات" عن منح شهاداتٍ لمن لا يستحقّها أبداً. يطالب الكاتب بغلق هذه الجامعات المحتالة غلقاً نهائياً. اللوذ بالصمت "المشبوه" لا يستدعي الدهشة في قطاع خطير جدّاً في الحياة العربية متروكٍ لمصيره. ويمكن أن ينقل العدوى إلى الجامعات الرسمية، فالحياة النهضوية العربية لا يمكن أن تبنى بلا معايير أخلاقية، وبلا ضوابط قانونية، وبلا مناهج معرفية، ولا يمكن لأحزابٍ سياسيةٍ أو طائفيةٍ، ولا لأفراد محتالين يحملون الدكتوراه كأغطية التهرّب من المساءلة، كانت لديهم تراخيصهم أم ليسَ لديهم أصلاً. وبطبيعة الحال، سيتلاعبون في ظلّ غياب رقابة الدولة، ممثلّة بالوزارات أو المؤسسات التشريعية والسياسية التي لا تعلم من يدير هذه الجامعات، ولا طواقم الأساتذة فيها، وما الذي يفعلونه وراء الأستار. المطلوب تأسيس مجالس عليا للتعليم العالي، تشرف على مفاصل التعليم العالي في البلدان العربية، وتتألّف من كبار العلماء في أيّ بلد، وأن تعمل الوزارات بما تقرّه تلك المجالس بعيداً عن أيّة ذرائع، وأن يجدّد قانون التعليم العالي كلّ أربع سنوات، أي في كلّ دورة من دورات المجلس الذي تمنح له صلاحيات واسعة، تلتزم بها الوزارة التي تكون بمثابة مؤسسة رقابة على الجامعات والمؤسسات العلمية والمراكز البحثية.
ينبغي سحب الاعتراف حالا من كلّ من يحمل شهادة اشتراها من جامعات وهمية أو تجارية أو سياسية، وإخضاع الأطروحات للفحص ثانية
إذا كان العراق يعيش مهزلة في المعرفة، وحمل كلّ من هبّ ودبّ لشهادات عليا، فليس معنى ذلك أن بقية البلدان العربية لا تعرف الهشاشة والابتذال، وخصوصاً عند منح الطلبة شهادات مزوّرة أو مباعة أو ممنوحة ضمن سياسات تفتقر إلى المعايير والشروط اللازمة للحصول على المعرفة، خصوصا على مستوى الماجستير والدكتوراه، مستفيدين من الحماية السياسية لهم، أو كما حدث في منح وزراء ونواب وذوي مناصب أو نفوذ وسلطة في العراق شهادات دكتوراه مباعة كل شهادة بعشرة آلاف دولار! فإن كنّا نعاني أصلاً من طلبةٍ يسرقون أطروحاتهم، وقد طالبنا بأن يعيد فحصها خبراء سرّيون، فاليوم نحن في مواجهة مرتزقةٍ ابتاعوا شهاداتهم العليا. وعليه، ينبغي سحب الاعتراف حالا من كلّ من يحمل شهادة اشتراها من جامعات وهمية أو تجارية أو سياسية، وإخضاع الأطروحات للفحص ثانية، وسحب الاعتراف بأيّ شهادة لم تستوف الشروط العلمية، وأن تتأسّس في كلّ بلد عربي هيئة علمية صارمة لها لجان سريّة متخصّصة لقياس السيطرة النوعية على جميع من يحمل شهادة عليا، وهو أبسط إجراء لتنظيف الحياة العربية من كلّ الأدران، فالأزمة لا يمكن أن تحلّها مشاورات وزيرين، عراقي ولبناني، للتعليم العالي، ولم تنفع في شي لا تصريحاتهما ولا إجراءاتهما، كما لا تنفع تدخلات رؤساء الجامعات، فالخطر بنيوي ومستفحل، ولا تنفعه أيّة تطمينات، ولا أيّة ادّعاءات، ذلك أن حجم التورّط كبير جداً، فثمّة عوامل سياسيّة ومصالح فئوية فاسدة وراء تفاقم الأزمة! ناهيكم عن العبث بالأوراق الرسمية من خلال موظفين ومكاتب وساطة للتسجيل ورشاوى للترخيص. أيّ علاج لا ينفع ولا أيّ تفتيش ورقابة، بل القرار بغلق هذه "الحانات" الموبوءة واتخاذ إجراءات صارمة بعدم إعادة فتحها، وإحالة كلّ المتورّطين إلى التحقيق والمحاكم، فإن ما قاموا به يعدّ جريمة يعاقب عليها القانون.
علامات استفهام كبيرة إزاء مثل هذه "الجامعات" في لبنان وغيره. ولا بد أن لا يقتصر على سحب الاعتراف بها رسمياً، بل الأمر بغلقها
وبحسب مصادر أكاديمية مطلعة، نقلت عنها تقارير منشورة، وافقت الجامعة الإسلامية مثلاً على تسجيل "عدد هائل من الطلاب العراقيين في درجتي الماجستير والدكتوراه، تجاوز ألف طالب في كلّ تخصص، وهذا غير موجود في أيّ دولة. وفي أحد التخصصّات، على سبيل المثال، تم توزيع تدريس مادة واحدة على ثمانية أساتذة، بحيث يدرّس كلّ أستاذ أكثر من مائة طالب. ولا تنكر رئيسة الجامعة، دينا المولى، وجود عدد لا بأس به من الطلاب العراقيين الذين يدرسون الماجستير والدكتوراه في الجامعة في جميع التخصصات، وخصوصا في الهندسة وإدارة الأعمال والآداب والقانون والدراسات الإسلامية والسياحة. .. ". لقد دافعت دينا المولى عن جامعتها، وقالت إنها ستطلب "اعتذارًا عن الإساءة التي سببتها للجامعة وشهاداتها وطلابها وخريجيها". وعليه، لا يكفي مثل هذا "الردّ" أبداً في دفع التهمة، وحتى الاعتراف بقبول 350 طالبا عراقيا لا ينفي الفضيحة التي انكشفت. وعليه، توضع علامات استفهام كبيرة إزاء مثل هذه "الجامعات" في لبنان وغيره. ولا بد أن لا يقتصر على سحب الاعتراف بها رسمياً، بل الأمر بغلقها نهائياً من أجل عودة الحياة العلمية إلى سابق قوّتها واتزانها وإرجاع الهيبة إلى حملة الشهادت العليا في مجتمعاتنا العربية قاطبة.