فرنسا والحجاب: من معاداة اليهود إلى اضطهاد المسلمين

10 أكتوبر 2022

تجمّع في باريس انتصارا لانتفاضة الإيرانيين بعد مقتل مهسا أميني (25/9/2022/الأناضول)

+ الخط -

أشعلت وفاة الشابة مهسا أميني فتيل احتجاجات دامية أودت بحياة عشرات من الإيرانيين الذين انتفضوا من أجل الحرية بكل تجلياتها، مطالبين بإسقاط دكتاتورية الجمهورية الإسلامية. وتجد هذه الأحداث صدىً واسعاً عبر العالم، خصوصاً في باريس وباقي العواصم الأوروبية التي تدعم بقوة انتفاضة الإيرانيات والإيرانيين ضد الحجاب، ليس باعتباره أبرز أنواع تسلّط النظام الإيراني على المواطنين وسطوته على حرياتهم، بل لكونه أبرز مظاهر الهوية الإسلامية. وتشهد مجتمعات غربية عديدة توظيفاً سياسياً للأحداث في إيران، عبر التلويح بالخطر الإسلامي الذي يمثله ارتداء الحجاب في البلدان الأوروبية، بينما تغضّ الطرف عن جوهر الانتفاضة الإيرانية التي تدور حول الحرية، الحرية ذاتها التي تتقلص يوماً بعد يوم في الغرب، حين يتعلق الأمر بالمهاجرين والمسلمين.
ما ترفضه الحركات النسوية والسياسيون والناشطون الحقوقيون في فرنسا ليس إكراه الإيرانيات على ارتداء الحجاب، بل اللباس في حدّ ذاته، خصوصاً ارتداءه في السياق الغربي. لم يتغيّر هذا الموقف منذ اندلاع الثورة الإسلامية في إيران، حيث لجأوا إلى الخلط بين وضع النساء في دولة أوثوقراطية سلطوية تفرض ارتداء العباءة الفارسية (التشادور) وموقف الفتيات والنساء المسلمات في فرنسا الديمقراطية ورغبة معظمهن أو بعضهن في ارتداء الوشاح، لسبب أو لآخر. 
انفجر الحجابوفوبيا في بلاد الأنوار مع انطلاق "قضية الحجاب الإسلامي" التي فبركها السياسيون والإعلام وروّجها المثقفون، في سياق عنصري تحوّلت معه معاداة اليهود إلى معاداة المسلمين. وتقول السردية الرسمية الفرنسية إن قضية الحجاب تعود إلى بداية السنة الدراسية لسنة 1989، إلى يوم 18 سبتمبر/ أيلول تحديداً، حين طرد مدير إعدادية غابرييل هافيز Gabriel-Havez، في منطقة كريي في الضاحية الباريسية، ثلاث فتيات من أصول مغاربية. لكن شهادة لويس كاردوسو، Luis Cardoso، أستاذ مادة التاريخ في الإعدادية ذاتها، تروي قصة أخرى في العدد 1129-1130 من مجلة Hommes & Migration لمطلع سنة 1990. يقول كاردوسو إن الموضوع في الأساس لم يكن يتعلق إطلاقاً بالحجاب واللائكية laïcité، بل بتلاميذ يهود أعضاء جمعية يهودية تدعى l’Association de Maison d’Enfants في منطقة شاطو دو لافرسين. دأب هؤلاء التلاميذ على التغيّب عن الفصل الدراسي صباح كل يوم سبت، وعلى التأخّر أسبوعاً بعد انطلاق الدخول المدرسي في شهر سبتمبر/ أيلول من كل سنة. استمرّ هذا الوضع سنوات إلى حدود يونيو/ حزيران 1989، حين قرّر مدير الإعدادية، أرنست شينيير Ernest Chénière، وبعض أعضاء مجلس الإدارة، أنه لن يُتسامَح مع الغياب عن الفصل الدراسي لأسباب دينية في بداية العام الدراسي المقبل. حينها، احتج بعض الأساتذة ضد هذا القرار بدعوى أنه إذا طُلب من الأطفال اليهود احترام الإطار اللائكي للمدارس، يجب تطبيق المبدأ ذاته على فاطمة وأختها ليلى، وسميرة، ثلاث تلميذات مسلمات من أصول مغاربية يرتدين الوشاح.

اختارت جلّ وسائل الإعلام والسياسيين والنسويات والنسويين التزام الصمت حيال عدم امتثال الطلاب اليهود للائكيتهم

ويروي كاردوسو أنه بعد انقضاء العطلة الصيفية، سينقلب الوضع ضدّ الفتيات الثلاث، بفعل مدير المدرسة وخلفيته السياسية. كان شينيير، وهو فرنسي يتحدّر من أصول مارتينكية سوداء، عضواً في حزب التجمع من أجل الجمهورية RPR اليميني، ويُعرف بتطرّفه تجاه المهاجرين المسلمين. أدرك أن تطبيق تعريفه للائكية على الأطفال اليهود سيعرّضه لاتهامه بمعاداة السامية، في حين أن من شأن التحامل على صبيات مسلمات أن يحقق له قفزة سياسية، في وقت تبنّت أحزاب يسار الكافيار ونسويات كوكو شانيل ومثقفو الحجابوفوبيا خطاباً معاديا للهجرة والإسلام، اشتهر به حزب جان ماري لوبان العنصري.  
في بداية الموسم الدراسي، طُرح موضوع تغيّب التلاميذ اليهود من جديد، وقوبل بوشاح التلميذات المسلمات، واختار المُرَبّون الجبناء قبول اليهود وطرد المسلمات، بعد أن رفض والد فاطمة وسميرة امتثال ابنتيه لقرار خلع الوشاح. أصدرت المدرسة مذكّرة لا تستند إلى أي مرجعية قانونية، لكنها تُلزم الأساتذة برفض أية طالبة "محجّبة" داخل الفصل. وبينما ظل الأطفال اليهود يتغيّبون السبت بكل حرية، جرى تسييس الموضوع وابتكار جدل رسمي عن الحجاب عبر طرحه على وسائل الإعلام. وافتتحت صحيفة محلية تدعى Le Courrier picard حرب فرنسا ضد "الوشاح الإسلامي"، في مقال ناري نُشر يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 1989 بعنوان "كريي: اللائكية وتحدّي التسامح".  
رغم أن صحيفة لوموند وصحفاً فرنسية أخرى ذكرت، في عجالة، في بداية تغطيتها الموضوع السياق الذي نشأ فيه الجدل، اختارت جلّ وسائل الإعلام والسياسيين والنسويات والنسويين التزام الصمت حيال عدم امتثال الطلاب اليهود للائكيتهم.
تحامَل الإعلام على الفتيات المسلمات، بعد أن قَلَبوا تعريف اللّائكية رأساً على عقب، لتتحول من مجموعة تدابير مُلزمة للدّولة ومؤسساتها إلى سلوك ولباس ملزم لأفراد المجتمع الفرنسي. وبينما راحت كاميرات إعلام الزّيف ترصد تحركات كل تلميذة ترتدي الوشاح في فرنسا، غيّبت موضوع انتهاك الجمهورية الفرنسية مبادئ اللائكية في منطقة الألزاس وموزيل التي يسري فيها قانون بونابرت، إذ ما زال رئيس الدولة الفرنسية يعيّن أساقفة الكنائس الكاثوليكية واللّوثرية وحاخامات المعابد اليهودية، وما زالت الجمهورية تدفع رواتب رجال الدين، في انتهاك لقانون اللائكية الفرنسية.

دفعت جبهة اللائكية الدولة الفرنسية ومؤسساتها نحو سنّ ترسانة من القوانين التي حرمت الفتيات "المحجّبات" حقّهن في التعليم العمومي

لم يسلّط الإعلام الضوء على هذه المفارقة التاريخية ولم يطالب السياسيون ومناصرو اللائكية بسطها على منطقة ألزاس وموزيل باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من فرنسا، بل شنّوا حرباً شاملة على تلميذات مراهقات ينحدرن من أوساط مهاجرة تقليدية وجلّها فقيرة، ويخضع بعضهن لتسلّط أولياء أمرهن. وبدلاً من الدفاع عن حق الفتاة والمرأة المسلمة في حرية الاختيار وحرية التصرف في جسدها، دفعت جبهة اللائكية الدولة الفرنسية ومؤسساتها نحو سنّ ترسانة من القوانين التي حرمت الفتيات "المحجّبات" حقّهن في التعليم العمومي، باعتبار هذا الزي رمزاً للخنوع والخضوع للنظام البطريركي. بدعوى رفض الحجاب لتكريسه لوضع المرأة المسلمة باعتبارها "ضحية التمييز على أساس النوع"، قبلت الحركات النسوية وباقي النخب الفرنسية، اليسارية واليمينية على حد سواء، أن تمارس السلطات تمييزاً على أساس النوع، بصمتها عن مشكلة تغيّب التلاميذ اليهود عن الفصل الدراسي. 
توضّح الخلفية التمييزية بين التلاميذ اليهود والتلميذات المسلمات، كيف ساهمت النخب الفرنسية في فبركة جدل سياسي حول الحجاب، وتحويله إلى أداة قمع للمرأة المسلمة تعتمدها السلطة لتقيد حريتها وتسيطرعلى هويتها، وهي بذلك لا تختلف جوهرياً عن نظام حركة طالبان الظلامي في نسختيه، ما قبل الغزو الأميركي لأفغانستان وبعده، إذ يقابل طرد "طالبان" الفتيات الأفغانيات من فضاء التعليم لكونهن نساء، أن تطردهن الجمهورية الديمقراطية الفرنسية لأنهن فتيات "محجّبات".  تختلف أسباب الطرد، ويبقى طرد الفتاة مصيراً مشتركاً يُوحّد بين التطرّف بنوعيه الثيوقراطي والعلماني. في فرنسا، تضرب الحجابوفوبيا في أعماق الإرث الكولونيالي، وتُذكّر بخلع المستعمر الفرنسي حجاب الجزائريات على نحو استعراضي عام 1958، بدعوى "تحريرها"، وتمثل، في الوقت ذاته، الوجه الجديد لكراهية الآخر، التي خاضها نابليون بونابرت ونظام فيشي النازي ضد اليهود باسم الدولة الوطنية، وواصلتها كل الحكومات المتتالية ضد المسلمين منذ رئيس الوزراء اليساري، ليونيل جوسبان، باسم الجمهورية اللائكية.

شغلت قضية درايفوس الرأي العام الفرنسي أزيد من عشر سنوات، انتشر فيها خطاب كراهية اليهود على نطاق واسع

لم تشهد فرنسا جدلاً اجتماعياً وسياسياً وثقافيّاً شبيهاً بما أثاره موضوع "الحجاب الإسلامي"، باستثناء قضية النقيب الفرنسي اليهودي، ألفريد درايفوس، في نهاية عام 1894، حين اتهمته السلطات الفرنسية بإرساله ملفات سرّية إلى ألمانيا. شغلت قضية درايفوس الرأي العام الفرنسي أزيد من عشر سنوات، انتشر فيها خطاب كراهية اليهود على نطاق واسع، وانقسم المجتمع بين نخبٍ مؤيدة وأخرى معارضة. دافعت ثلة من كبار المثقفين، بقيادة الصحافي برنار لازار والرّوائي إميل زولا، عن براءة درايفوس، وخاضوا حرباً إعلامية، توّجتها رسالة زولا الشهيرة "أنا أتّهم" "J’accuse"، أجبرت الحكومة على إعادة فتح التحقيق، واتّضح أن إدانة درايفوس اعتمدت على وثائق مزوّرة. انتهت القضية بإطلاق سراح درايفوس وتبرئته في عام 1906، وإعادته إلى رتبة رائد في الجيش الفرنسي، لكنها رسّخت معاداة اليهود في المجتمع. 
لسوء حظ فاطمة وسميرة وليلى وغيرهن، لم يجدن أصواتاً بحجم زولا للدفاع عنهن، وتبرئتهن، وإعادتهن إلى حضن المدرسة، ولم تنتبه الشخصيات اليهودية الأكثر تأثيراً في المجتمع الفرنسي إلى أن كراهية المسلمين من كراهية اليهود في بلادٍ طالما وُصفت بـ"الابنة البِكر للكنيسة"، بل اللّافت أن أصوات أشهر الفرنسيين اليهود قد تصدّرت الهجوم على الإسلام والمسلمين بعد أن سخّر لها الإعلام كبرى منابره وأبواقه. وقاد الفلاسفة الصهاينة، بزعامة برنار هنري ليفي وأندريه غلوكسمان وألان فينكيلكروت، والمُحامية النسوية إليزابيث بادانتير وزميلتها جيزيل حليمي، حملة شيطنة الحجاب والمحجّبات؛ حملة ستظل وصمة عار على جبين جمهوريةٍ تنقش على نصبها التذكارية ومداخل مؤسّساتها الحكومية شعاراً لا ينطبق على مسلميها "حرية، مساواة، أخوة".

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري