فرنسا وألمانيا: تباينات أوروبية في زمن صعب

03 نوفمبر 2022

الرئيس الفرنسي ماكرون يستقبل المستشار الألماني شولتز في باريس (26/10/2022/Getty)

+ الخط -

هناك عدة مقاربات أوروبية للنظر في مستقبل الأزمة الأوكرانية ونتائجها، ولعلّ آخر ما ظهر منها المقاربة التي تذهب إلى أنّ أيام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في الحكم باتت معدودة، وأنّ التململ الداخلي الناتج عن العقوبات والتضييق الاقتصادي سوف يساهم في تقويض ملكه.

تستند هذه النظرة على شهادة معارضين ناقمين استطاعوا الخروج من روسيا أو على شهادات رجال أعمال وجدوا أنفسهم محاصرين ضمن عقوبات متنوعة أعاقت تجارتهم وحركة تنقلاتهم. يجمع هؤلاء على أنّ وجود بوتين أصبح يمثل تهديداً لطبقة شعبية كبيرة. تبدو هذه المقاربة غير واقعية، ولا كافية لإقناع الشعوب الأوروبية بقرب الخلاص والوصول إلى تسوية نهائية بناء على قرب تنحية بوتين، فإسقاط الرئيس الروسي قد لا يؤدّي، بالضرورة، إلى استبداله برئيس أكثر اقتراباً من القوى الغربية، بل قد يقود إلى فوضى، وإلى تعمّق للأزمة التي تعيشها أوروبا على صعيد الطاقة والأمن.

قد تكون هذه الطريقة في التحليل مفيدةً في إطار الحرب المعنوية، لكنّ مشكلتها أنّها تعتمد على المبالغة في تقدير الخسائر الروسية، وعلى الحديث بثقةٍ أنّ بوتين خسر مناصريه الذين باتوا يحمّلونه وزر ما يعيشون من تعقيدات، وهم يعتبرون أنّه السبب في الخسارة والهزيمة. مسألة تقدير الخسائر مهمة، وفي حالة العجز الذي تظهره القارّة العجوز ومستوى الارتباك وفقدان الاستقرار الذي تعيشه يصبح الحديث عن خسارة روسية أو نصر أوروبي مثار جدل، وحتى مع الاتفاق على أنّ النصر العسكري الأوكراني الكاسح قد يؤدّي إلى إسقاط النظام في موسكو، فإنّ التشكيك يتزايد حول اقتراب ذلك النصر.

تحاول كلّ دولة أوروبية تأمين نفسها والتخفيف من آثار الصراع عليها، وإنْ بمعزلٍ عن الجهود الجماعية للاتحاد الأوروبي

في مقابل هذه النظرة التي تعتمد على فرضية تغير النظام في موسكو، تبرز مقاربات أكثر عملية وبراغماتية تدور حول ضرورة توقع الأسوأ. وفق هذه المقاربة، تحاول كلّ دولة أوروبية تأمين نفسها والتخفيف من آثار الصراع عليها، وإنْ بمعزلٍ عن الجهود الجماعية للاتحاد الأوروبي. الملاحظ، بعد حوالي ثمانية أشهر، من بداية الأزمة، أنّ الحرب عزّزت الانشقاقات والفردية التي كانت موجودة بالفعل بين الدول الأوروبية، فمع تزايد التهديدات في مجالي الطاقة والأمن أصبحت كلّ دولة مشغولة بأمنها المحلي الذي ترى أنّ له محدّدات مختلفة، بحسب موقعها الجغرافي ومدى اعتمادها على الموارد الروسية.

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، انفردت كلّ من فرنسا وألمانيا بقيادة أوروبا اقتصادياً وسياسياً، وهما البلدان اللذان كان لهما الدور الأهم في ولادة الاتحاد وتأسيس مؤسساته. المشكلة اليوم أنّ للبلدين وجهات نظر مختلفة، حينما يتعلق الأمر بالطاقة أو بالأمن. في مجال الطاقة، فكّرت فرنسا بإرساء حزمة دعم اتحادية شاملة للسيطرة على الارتفاع القياسي في أسعار الغاز والمواد البترولية، في حين شرعت ألمانيا في وضع ميزانية وطنية تحلّ بموجبها مشكلتها وتوفر دعماً كافياً للمستهلكين الألمان. المشكلة في الاتجاه الألماني، وفق نقاده، لا تكمن فقط في نظرته الجزئية للأزمة، وفي تجاهله بقية الأعضاء، الأقل قدرة على توفير مبالغ مليارية في سبيل امتصاص المشكلة، وإنما في أنّ ألمانيا سوف تصبح بناء على هذا جزءاً من التعقيد، لأنه سيترتب على سياستها هذه ارتفاع جديد في أسعار الطاقة.

تعيد مثل هذه التفاصيل إلى الأذهان المقولات التي كانت تذهب إلى أنّ هذا الاتحاد، مع ما يبدو عليه من قوة ومتانة، ليس سوى كيان هشّ لن يلبث أن ينفرط حينما تتضارب المصالح. حدث هذا بالفعل إبّان أزمة اللاجئين، حينما بدأت الدول في التنصّل من مسؤولياتها وتحميل العبء الأكبر للدول الأضعف، كما حدث إبّان الخلاف على خط "ميدكات" للغاز، والذي كان يفترض أن يوصل الغاز الجزائري إلى ألمانيا وبقية أوروبا لولا اعتراض الفرنسيين على مروره بأراضيهم.

الجدل حول "ميدكات" سبق بسنوات الأزمة الحالية، وفيه بدت فرنسا أيضًا أنانية بنظر حلفائها، حيث كانت تعتبر أنها غير معنية بالمشروع أو بالمساهمة به، لأنها كانت تستطيع توفير احتياجاتها عبر الطاقة النووية والاستيراد.

في المقابل، طرحت فرنسا المشروع الذي أطلق عليه اسم "بارمار"، والذي يدور حول نقل الغاز عبر البحر بين برشلونة الإسبانية ومارسيليا الفرنسية، وهو مشروع تواجهه أيضاً عقبات.

بين فرنسا وألمانيا خلافات أخرى، حينما يتعلق الأمر بالأمن، ففي حين يرى الفرنسيون أن بإمكان أوروبا أن تكون مستقلة دفاعياً، وأن تقيم حلفاً بمثابة حلف شمال الأطلسي، يرى الألمان أن من التسرّع العمل في المجالين، العسكري والأمني، بمعزل عن الأميركيين، إلى درجة أن الإعلان الألماني أخيرا عن ميزانية كبرى للدفاع على وقع طبول الحرب الأوكرانية، لم يكن المقصود به تشجيع الصناعات الأوروبية، بقدر ما كان يعني مزيدًا من استيراد العتاد الجاهز من الحلفاء الأميركيين.

ليس التباين الفرنسي الألماني المشكلة الأوروبية الوحيدة، فهناك الخلاف أخيراً بين دول الوسط والشرق بشأن الأزمة الأوكرانية

تبرز هنا وجهتا نظر: يرى الفرنسيون أنه حان الوقت للاعتماد على النفس، وتطوير الصناعات الدفاعية و"توطينها" من أجل ضمان الأمن والحماية، في حين يرى الألمان أنّ الظروف الاستثنائية الحالية، على العكس من ذلك، تدعو إلى التمسّك بالحليف الأميركي، لأنّ الاستقلال الدفاعي هو استراتيجية طويلة الأمد وتتطلب وقتاً لا يملك الأوروبيون رفاهيته.

في هذا الإطار، رأى محللون في الإلغاء المفاجئ للاجتماع الوزاري التشاوري الدوري بين فرنسا وألمانيا، والذي كان يفترض أن يعقد في 26 الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) مؤشراً على تزايد الحساسيات بين الطرفين، وعلى أنّ الخلافات صارت أكبر من قدرة المسؤولين التنفيذيين على النقاش، وهو ما يمكن الاتفاق معه، بالنظر إلى عدم تقديم مبرّرات مقنعة لذلك الإلغاء.

ليس التباين الفرنسي الألماني المشكلة الأوروبية الوحيدة، فهناك أيضاً الخلاف أخيراً بين دول الوسط ودول الشرق حول الأزمة الأوكرانية، فبينما ترى دول الشرق في روسيا تهديداً وشيكاً يتوجب الدفع بأقصى قوة، ترى دولٌ، مثل فرنسا وألمانيا، بالرغم من التعاطف مع أوكرانيا، أنّه يجب التعامل بحكمة مع روسيا.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق