فرنسا اليمينية .. فرنسا اليسارية
الانتخابات التشريعية الفرنسية في دورتها الأولى يوم الأحد الماضي محطة مهمة في حساب المنافسة بين الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي جاء تحالفه (ensemble) أول (25,75% من الأصوات)، والمرشّح الرئاسي السابق، جان لوك ميلانشون، الذي حل تحالفه (nupes) في الترتيب الثاني (25,66% من الأصوات) بفارق طفيف، وهو الزعيم الصاعد بقوة في الحياة السياسية الفرنسية، على أنقاض أحزاب اليسار، الذي شهد تراجعا كبيرا في العقد الأخير، لا سيما الحزب الاشتراكي، الذي لم تتجاوز مرشّحته للرئاسة نسبة 2%. ويلعب هذا السياسي ذو الماضي الاشتراكي والوزير السابق دور الوريث، من خلال تبنّي برنامج يتولى الدفاع عن شرائح واسعة في المجتمع الفرنسي، لا تجد ذاتها في برامج الأطراف السياسية الأخرى التي تتموضع في اليمين بكل فروعه. وهذا ما يفسّر المعركة الحامية من أجل قطع الطريق على الائتلاف اليساري "الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد" (نوبيس)، بقيادة ميلانشون، والذي يتألف من قدامى الاشتراكيين والشيوعيين والخضر وتجمعات اليسار الصغيرة من مناهضي خط ماكرون واليمين المتطرّف، واستنفرت وسائل الإعلام التي تدور في فلك اليمين لشن حملات على ميلانشون منذ صعد بقوة في الانتخابات الرئاسية أخيرا، وحل في المرتبة الثالثة بنسبة 22%، ويجري تصوير حصوله على أكثرية نيابية في الدورة التشريعية الثانية يوم الأحد المقبل، بأنه سوف يُحدِث أزمة فعلية، لأن البلد سوف يصبح برأسين، ماكرون وميلانشون، مع أن هذا الأمر تكرّر مرتين في العقود الثلاثة الأخيرة.
فرنسا بلد يساري يصوّت لليمين، على حد تعبير عالم الاجتماع الفرنسي روجيه سيو. ووصل اليسار إلى الرئاسة مرتين في عهد الجمهورية الخامسة التي أسّسها الجنرال ديغول عام 1958. الأولى مع فرانسوا ميتيران (1981 - 1995) والثانية مع فرانسوا هولاند (2012 - 2017)، ومع ذلك، لم يُحدث حكم الاشتراكيين انقلابا على هوى الشعارات التي رفعوها من أجل التغيير الجذري، وبالتالي لا فضل لهم فيما يخص قوانين الصحة والضمان والتعليم والبطالة والتقاعد، مثلهم مثل اليمين الجمهوري الذي وضع أساسه ديغول، وكانت آخر تمثيلاته خلال حكم جاك شيراك (1995 - 2007)، حيث تميز بالطابع الاجتماعي الإنساني، على خلاف اليمين الليبرالي في صيغته الاقتصادية، عندما بدأ يطلّ برأسه مع الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي (2007 - 2012) الذي حاول أن يشكل قطيعة مع جيل الآباء، ودشّن مرحلة جديدة برز فيها بقوة الوجه المحافظ لليمين، وخصوصا في ما يتعلق بالهجرة والإسلام والهوية التي خصّص لها وزارة كاملة، ودخلت بقوة إلى صناديق الاقتراع في الرئاسية والتشريعية والمحلية، وبدأت خريطة فرنسا تتلون أكثر مما كانت عليه باللون الأزرق الذي يرمز إلى اليمين، وخصوصا المناطق الحضرية.
التحوّل المتنامي في اتجاه اليمين من وجهة نظر انتخابية يظهر في صناديق الاقتراع، وهناك دراسات تؤكد أن نسبة المصوّتين لأحزاب اليمين زادت بمعدل 5% خلال خمس سنوات، وهذا أمر ينسحب على بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، ويفسّر سيطرة اليمين على 21 حكومة من أصل 27 في الاتحاد الأوروبي. وهو لا يترجم نفسه من وجهة نظر اقتصادية فحسب، بل أيضا بالمحافظًة في المجالين، الاجتماعي والثقافي، لكن فرنسا لم تتحوّل إلى الليبرالية الاقتصادية في العقدين الأخيرين، ولم ينجح هذا التوجّه حتى في الولاية الأولى للرئيس الحالي ماكرون، القادم إلى الرئاسة من عالم الشركات والمصارف، فرفض الفرنسيين الليبرالية الاقتصادية يكاد يكون جذريا. ومع ذلك، ومهما كانت الفترة الزمنية، هناك دائمًا، في مواجهة كل مشكلة ما يسمّى النهجين، اليميني واليساري، وتميل فرنسا خلال السنوات الخمس المقبلة إلى التعايش بينهما، وهذا ما يؤيده 55% من الفرنسيين حسب استطلاعات الرأي، ما يشكّل كابحا لقادة السفينة نحو جهة محدّدة، ويحدّ من هجوم اليمين ويبطئ تراجع اليسار.