فرنسا التي لا تفرح بآني إرنو
لمّا أُعطيت جائزة نوبل للآداب في العام 2008 للفرنسي جان ماري لوكليزيو، وفي 2014، للفرنسي باتريك موديانو، وقبلهما لأدباء فرنسيين سبقوهما في إحرازها، اغتبط بهم الإعلام في بلدهم كثيرا، وهذا طبيعيٌّ ومتوقعٌ، بالنظر إلى المكانة الثقيلة للجائزة الكونية العتيدة، فأن ينالَها أديبٌ فرنسيٌّ (أو يكتب بالفرنسية) أمرٌ يصبّ في ترويج ثقافة الأمة الفرنسية، وفي ذيوع الفرنكفونية. وأقام الإعلام في عاصمة الأنوار لبعضٍ ممن أحرزوها (16 فرنسيا نالها من بين 96 غربيا من 119 أديبا) ما يشبه "فرح العُمدة". .. لم يُعايَن شيءٌ من البهجة في وسائط الميديا وبين النخب الفرنسية بعد إعلان الأكاديمية السويدية الخميس الماضي منحَها "نوبل للآداب" للروائية الفرنسية آني إرنو (82 عاما). وباستثناء ما بدا احتفاءً، بقدرٍ معيّن، في صحيفة ليبراسيون بالحدث، فإن المتابعات الإخبارية في غيرها من الصحف والتلفزات، على تنوّعها، بدت كأنها "رفع عتبٍ"، أو ضرورةٌ تفرضها المهنيّة التقليدية، من دون أي منزعٍ احتفاليٍّ، أو شيءٍ مما حظي به لوكليزيو مثلا. وفي موازاة عدم اكتراث المؤسّسة الثقافية الرسمية، ومن الوسطين، الرئاسي والحكومي، بخبر آني إرنو مُكرّمةً بأرفع جائزةٍ أدبيةٍ عالميةٍ، صودفت انتقاداتٌ من أوساطٍ فرنسيةٍ للأكاديمية السويدية، روّجت عدم استحقاق الروائية المعروفة الجائزة.
وإذا ما اجتهد واحدُنا في تفسير هذا الأداء الإعلامي في فرنسا بشأن الحدث الثقافي، الكبير لا ريب، وقد بدا أداءً ينطوي على موقفٍ مضمَرٍ من السيدة الثمانينية، ففي الوُسع أن يُدرَج هذا الأمر في سياق الجنوح العام في فرنسا نحو اليمين، بل واليمين المتطرّف، على ما دلّ الموسم الانتخابي الرئاسي في إبريل/ نيسان الماضي، فيما آني إرنو تنتسب إلى اليسار، وجرى تصويرُها شيوعيةً متطرّفة، وهي التي صوّتت للمرشّح اليساري الراديكالي، جاك لوك ميلنشون. ومع ما يشبه سطوة لوبيّات اليمين ورموزه المالية والإعلامية على قطاعٍ عريضٍ من الميديا الفرنسية، فإن عدم الاحتفال بتكريم شخصيةٍ ثقافيةٍ فرنسيةٍ معروفةٍ بمناهضتها العنصرية، وانتصارها للمهمّشين، يصبح من طبائع الأمور في هذا السياق. فضلا عن أن إرنو ناشطةٌ في انتقاد إسرائيل، وأعلنت عن مواقف متقدّمةٍ في رفض أي تواطؤٍ فرنسيٍّ مع جرائم دولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، وهي التي تُساند حركة مقاطعة إسرائيل، وشاركت في التوقيع على بياناتٍ وعرائض في هذا الخصوص. وقد أبرزت الصحافة العبرية هذا في متابعتها خبر الجائزة لصاحبة رواية "الاحتلال"، ومن ذلك وصف "تايمز أوف إسرائيل" الكاتبة بأنها "عُرفت بالتزامها اليسار المتطرّف".
وعندما يتطوّع الصهيوني المتطرّف، الموصوف زورا بالفيلسوف، برنار هنري ليفي، في التنديد بتكريم الأكاديمية السويدية آني إرنو بجائزة نوبل، وعندما تتبدّى ما يشبه حملةً صهيونيةً ظاهرةً في فرنسا ضد هذا التكريم، فإن لواحدِنا أن يقدّر هذا من أهم الأسباب التي تجعل الإعلام الفرنسي يتعامل مع الحدث الثقافي (الفرنسي بداهة) بتحفّظ، وبعاديّة، على غير ما كان سيكون عليه لو أن التخمينات صدقت، فراحت الجائزة إلى الشاعر والروائي والسينمائي الفرنسي، ميشيل ويلبيك، المُصاب بالإسلاموفوبيا، على ما وصفَ نفسَه بنفسِه. وبالتأكيد على غير ما كان الإعلام الفرنسي سيفعل لو "استفزّت" الأكاديمية السويدية العالم الإسلامي، وأعطت الجائزة لسلمان رشدي، تضامنا معه بعد واقعة الاعتداء عليه أخيرا في نيويورك. ولم يستحِ هنري ليفي في تعظيم رشدي، والتبخيس من آني إرنو التي رآها لا تستحقّ "نوبل للآداب".
وليس من الحصافة أن نكترث، نحن المعلقون، بما يصدُر عن هذا الشخص، إلا أنّ ما بدت عليه فرنسا، على صعيد إعلامي، وربما سياسي وثقافي، بشأن منح سيدةٍ فرنسيةٍ أهم جائزة عالمية في الآداب، يستثير أكثر من استفهام، عمّا إذا كانت لأنفاسٍ يمثلها الصهيوني المشار إليه أثر بيّن على المزاج الإعلامي الفرنسي العام. وإذا صحّ ما رآه بعضٌ ممن عاينوا المشهد، أن ثمّة قطبةً (بالتعبير اللبناني؟) ذكوريةً في الأمر، فالفائزة امرأة، انضافت إلى العوامل المؤشّر إليها: يساريّة آني إرنو، مناهضتها إسرائيل، مناوأتها العنصريات، .. إذا صحّ هذا، فإننا قد نكون أمام فرنسا أخرى غير التي كنّا نعرف، وكنّا نقرأ عنها، فرنسا لا تفرح بفوز مواطنةٍ منها بجائزة نوبل للآداب.