فدائيو ذلك الزمان
ربما يكون أبو علاء منصور، وهو الاسم الحركي للقيادي في حركة فتح محمد محمود يوسف، أول منفّذ لعملية طعن بالسكاكين طاولت جنوداً إسرائيليين. ففي أعقاب اقتحام الجيشين، المصري والسوري، خط بارليف ومرتفعات الجولان في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973، دبّت الحماسة في نفس أستاذ الرياضيات الشاب آنذاك، وقرّر تنفيذ عملية ضد الجيش الإسرائيلي من دون أن يعرف كيف، فلا خبرة عسكرية يُعتدّ بها لديه، ولا إمكانات تنظيمية متقدّمة، بل مجرّد خليةٍ حزبيةٍ أنشأها بنفسه، وتتكوّن من شقيقه واثنين من رفاقه. فكّر في البداية بمهاجمة دبابات إسرائيلية بقنابل مولوتوف بدائية، فاكتشف صعوبة ذلك، ليهتدي إلى فكرة عملية أكثر، وهي مهاجمة الجنود الإسرائيليين الذين نشرهم الجيش لحماية المؤسسات في رام الله، وهو ما كان، فقد تسلح ورفاقه بالسكاكين، ونجحوا في إصابة جنديين اثنين كانا يتوليان حراسة بنك ليئومي. ويروي أبو علاء منصور شعوره آنذاك بالانتشاء والفخر، فقد تلاشت هيبة الاحتلال وبدا كأن رام الله قد تحرّرت. كان ذلك عام 1973، وكان الشاب في العشرينيات من عمره ليس أكثر.
أحدثت العملية غير المسبوقة زلزالاً على ضفتي الصراع، في إسرائيل وفي أوساط التنظيمات الفلسطينية التي ادّعى بعضُها تنفيذ العملية على مسمع منفذها الذي اعتصم بالصمت، وقاوم تلك الرغبة الجامحة التي قد تنتاب شابّاً صغيراً في المباهاة بإنجاز وطني كبير.
نعثر على تفاصيل ذلك وسواه كثير في كتاب أصدره منفذ العملية بعد نحو خمسين عاماً عليها "عبور النهر" (الرعاة للدراسات والنشر، جسور ثقافية للنشر والتوزيع، رام الله، 2022) كما نتابع رحلة هروبه بعد اكتشاف خليّته، وعبوره نهر الأردن، فوصوله بعد ذلك إلى سورية فلبنان، حيث شارك في قيادة ما يسمّى القطاع الغربي، وهو وصف أطلقته القيادة الفلسطينية حين كانت في الخارج على الأرض المحتلة، وكان يديره خليل الوزير (أبو جهاد) أسطورة العمل العسكري والتنظيم السري في حركة فتح.
يقدّم الكتاب ما هو أهم من التوثيق الذي يجعل القضايا الحارّة باردة وأشبه بجثّة تخضع للتشريح، فيختلف فيها الدارسون والمؤرّخون حول قضايا محض تفصيلية، فيضيّعون الصورة الكاملة والحرص على جاذبيتها كونها تمثل قضية شعبٍ لم يوفّر أبناؤه فرصة، ولم يبخلوا بتضحيةٍ ممكنةٍ في طريقهم لتحريره وتثبيت هويته. وهو ما نجح فيه بامتياز أبو علاء منصور الذي قدّم روايته الشخصية بسرد روائي مشوّق، عاطفي لكن ليس رخواً، وصفيٌ لكن باقتصاد لغوي، ومن دون استطراداتٍ تضيّع الفكرة الرئيسية لنصّه الذي هو سيرة ذاتية في نهاية المطاف، وليس نصاً روائياً تخيلياً.
ميزة النصّ أنه يكسر احتكار السيرة الذاتية التي احتكرها تاريخياً من مُنحوا مكانة استثنائية في حياتهم ومجالات عملهم، وهو ما لا ينطبق، في أحد جوانبه، على هذا الفدائي الذي اختبأ خلف اسم مستعار طوال حياته تقريباً، فقلة هم الذين يعرفون أنه كان من مسؤولي ما تسمّى لجنة الـ77 التابعة للقطاع الغربي، ومسؤولي العمل السرّي في الأراضي المحتلة ومن كبار رفاق مروان البرغوثي المعتقل في سجون الاحتلال. وكان هذا دأب الفدائيين الأوائل الذين كانوا يتحرّكون بأسماء مستعارة، بل يموتون (بعضهم وليس كلهم) بالأسماء المستعارة ذاتها، وهو ما اعتُبر فضيلة في زمن المباهاة التنظيمية وادّعاءات البطولة واستثمارها لصالح أشخاص أو تنظيمات.
وما نأمله أن يبادر آخرون من رفاق أبو علاء منصور وأمثاله في العمل الفلسطيني العام، والفدائي تحديداً، مثل رفاق أبو جهاد الأحياء وشباب الكتيبة الطلابية (أو كتيبة الجرمق) في لبنان الأكثر إثارة للاهتمام، وتحوز جاذبية نادرة كونها كانت مكونة في أغلبها من طلاب جامعات بميول يسارية استطاعوا شق طريقهم في العمل الفدائي على نحو فريد ومختلف، إلى تقديم تجاربهم للقراء، وقد فعل بعضهم، لتعرف الأجيال الجديدة التي نشأت وكبرت بعيداً عن نار الثورة الأولى، أن سلسلة الذهب في الطريق إلى فلسطين لم تنقطع، وما زالت تلمع بين الصخور ومن وسط التراب الذي أُهيل على قضيةٍ كانت الأكثر عدلاً وجاذبية في العالم، وانتهت عبئاً على أصحابها بسبب قياداتٍ آلت الأمور إليها من دون استحقاق نضالي، فحوّلت قضية شعبها إلى مجرّد بند يُطرح على اجتماعات وزراء الخارجية العرب، فلا يجد من يتحمّس له حتى أصحابه أنفسهم.