فتوى حاسمة من محكمة العدل الدولية

27 يوليو 2024

قضاة "العدل الدولية" وقوفاً قبيل الحكم في العواقب القانونية للاحتلال (19/7/2024 فرانس برس)

+ الخط -

محكمة العدل الدولية أعلى سلطة قضائية في منظومة الأمم المتّحدة، وبالتالي في النظام الدولي ككل، ولها اختصاصان: الأول قضائي، يتيح لها الفصل في المنازعات ذات الصبغة القانونية التي تنشب بين الدول، شريطة توفّر الخصائص اللازمة لانعقاد ولاية المحكمة، وتعتبر أحكامها في تلك المنازعات واجبة النفاذ، ويمكن للدول التي صدرت الأحكام لصالحها أن تلجأ إلى مجلس الأمن لفرض عقوبات على الدول الرافضة للامتثال لتلك الأحكام. والمثال الأحدث على هذا النوع من المنازعات هو القضية المرفوعة حالياً أمام المحكمة من جانب دولة جنوب أفريقيا المُتّهمة فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضدّ الشعب الفلسطيني، وبالتالي بانتهاك أحكام اتفاقية العام 1948 الخاصّة بمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي لم تفصل فيها المحكمة نهائياً بعد. والاختصاص الثاني إفتائي، ويتيح لها سلطة إصدار فتاوى قانونية في المسائل التي تطلبها منها الجمعية العامة للأمم المتّحدة، أو الهيئات والمؤسّسات الدولية التي تصرّح لها الجمعية العامة بذلك، والمثال الأحدث على هذا الاختصاص هو الفتوى التي طلبتها الجمعية العامة من المحكمة في ديسمبر/ كانون الأول 2022، حول "العواقب القانونية المترتّبة على سياسات وممارسات دولة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967"، وأصدرت المحكمة فتواها بشأنها في يوليو/ تمّوز 2024.

لم تترك فتوى "العدل الدولية" شاردةً ولا واردةً تتعلّق بالقضية الفلسطينية إلّا أحصتها واعتبرتها منافيةً شكلاً وموضوعاً للقانون الدولي

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفتوى الخاصّة بالسياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة تختلف تماماً عن فتاوى المحكمة السابقة كلّها بشأن القضية الفلسطينية. صحيح أنّ الفتوى المُتعلّقة بجدار الفصل العنصري، الصادرة في التاسع من يوليو/ تموز الجاري، أكّدت مخالفة الجدار للقانون الدولي، ومن ثمّ طالبت المحكمة بهدمه فوراً، والتعويض عن الأضرار الناجمة عنه، كما مسّت، في الوقت نفسه، جوانبَ مختلفة من السياسات والممارسات الإسرائيلية غير المشروعة في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، غير أنّ آخر فتوى اشتملت مسائل أشمل وأعمّ، ولم تترك شاردةً ولا واردةً تتعلّق بالقضية الفلسطينية إلّا أحصتها واعتبرتها منافيةً شكلاً وموضوعاً للقانون الدولي، بل وموجبة للعقاب أيضاً، والتعويض عمّا تسبّبت به من أضرار للأشخاص الطبيعيين والاعتباريين. ويعود ذلك للحرفية الشديدة التي صاغت بها الجمعية العامة للأمم المتّحدة الأسئلة المُوجّهة لمحكمة العدل الدولية، التي دارت حول محورَين رئيسيَين. المحور الأول صيغ على النحو التالي: ما العواقب القانونية المُترتّبة على انتهاك دولة الاحتلال المُستمرّ لحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، نتيجة احتلالها طويل الأمد واستيطانها وضمّها للأراضي الفلسطينية المُحتلّة منذ 1967، بما في ذلك التدابير الرامية إلى تغيير التركيبة السكّانية لمدينة القدس وطابعها ووضعها، ومن اعتمادها التشريعات والتدابير التمييزية ذات الصلة بتحقيق ذلك؟ أما المحور الثاني فكان: كيف تُؤثّر سياسات وممارسات دولة الاحتلال الإسرائيلي، المشار إليها في المحور الأول، في الوضع القانوني للاحتلال، وما هي التبعات القانونية المُلقاة على عاتق جميع الدول، وعلى الأمم المتّحدة، جرّاء استمرار هذا الاحتلال، وتلك السياسات والممارسات؟
كان على محكمة العدل الدولية، كي تجيب بشكل وافٍ ومقنعٍ عن هذين السؤالَين المُصاغَين بحرفية شديدة، أن تتعرّض بالتفصيل لأبعاد وتعقيدات القضية الفلسطينية كلّها، سواء القضايا الكبرى، من قبيل مدى قانونية استمرار الاحتلال الإسرائيلي، والطبيعة الخاصّة للسياسات والممارسات الإسرائيلية وما تنطوي عليه من عنصرية وتمييز، وحقّ الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وفي مقاومة الاحتلال، ومدى شرعية المستوطنات، وحقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم، وفي التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم... إلخ. أو القضايا الفرعية، من قبيل: مصادرة الأراضي، وهدم البيوت... إلخ.
ولكي تحصل على أكبر قدر من المعلومات بشأن ما يجري في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، نظرت المحكمة في التقارير كافّة، التي أعدّتها المنظّمات الدولية، الحكومية وغير الحكومية، لمختلف هذه القضايا، وعقدت ست جلسات استماع شاركت فيها عشرات الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة، فقدّمت 57 دولة مرافعات مكتوبة، و49 دولة مرافعات شفوية، وكانت المُحصّلة وثيقة من 83 صفحة، تضمّنت 85 فقرة تُشكّل في مجملها وجهة نظر المحكمة في تفاصيل السياسات والممارسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة، وأيضاً ما ينبغي على الأمم المتّحدة، وعلى جميع الدول الأعضاء فيها، القيام به في مواجهة هذه السياسات والممارسات.
ويتّضح من هذه الوثيقة أنّ محكمة العدل الدولية، المكوّنة من 15 قاضياً، صوتت بشكل منفصل على تسع قضايا. تتعلّق الأولى باختصاص المحكمة. وقد رأى جميع القضاة الـ15 أنّ للمحكمة صلاحية النطق بالرأي الاستشاري الذي طلبته الجمعية العامة للأمم المتّحدة، وبالتالي لم يعترض أحد على هذا الرأي. والثانية تتعلّق بما إذا كانت المحكمة مُلزَمة بالامتثال لطلب الرأي الاستشاري. وقد رأى 14 قاضياً أنّ المحكمة ملزمة بالامتثال لهذا الطلب، خصوصاً أنّه مُقدَّم من الجمعية العامة للأمم المتّحدة صاحبة الاختصاص الأصيل في هذا الشأن، ولم يعترض على هذا الرأي سوى قاضٍ واحد. وتعلّقت القضية الثالثة بالتكييف القانوني للوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967. وقد رأى 11 قاضياً أنّ الوجود الإسرائيلي في هذه الأراضي غير قانوني، بما في ذلك في قطاع غزّة، الذي ما زال واقعاً تحت الحصار الإسرائيلي. بينما اعترض على هذا الرأي أربعة قضاة. والقضية الخامسة هي ما إذا كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي مُلزَمة بالانسحاب من هذه الأراضي. وقد رأى 11 قاضياً أنّ دولة الاحتلال الإسرائيلي مُلزَمة بإنهاء وجودها غير القانوني في الأراضي الفلسطينية كلّها، المُحتلّة عام 1967، في أسرع وقت ممكن، بما في ذلك قطاع غزّة الذي يُشكّل وحدةً جغرافيةً واحدةً مع الضفّة والقدس الشرقية، بينما عارض أربعة قضاة هذا الرأي.
أمّا القضية الخامسة فتتعلق بوقف الأنشطة الاستيطانية الجديدة وإخلاء المستوطنات. وقد رأى 14 قاضياً أنّ الحكومة الإسرائيلية مُلزَمة بالوقف الفوري لجميع الأنشطة الاستيطانية الجديدة، وإجلاء المستوطنين جميعهم، ولم يخالف هذا الرأي سوى قاضٍ واحد. وتعلقت القضية السادسة بما إذا كانت الدولة الإسرائيلية مُلزَمة بدفع تعويضات للفلسطينيين. وقد رأى 14 قاضياً أنّ الدولة الإسرائيلية مُلزَمة بدفع تعويضات عن الأضرار التي لحقت بجميع الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين المعنيين، ولم يعترض على هذا الرأي سوى قاضٍ واحد. أما السابعة فهي بشأن الواجبات المُلقاة على عاتق الدول الأخرى، جرّاء استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967. وقد رأى 12 قاضياً أنّ جميع الدول مُلزَمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني لدولة الاحتلال، بينما اعترض ثلاثة قضاة على هذا الرأي. وتناولت القضية الثامنة الواجبات المُلقاة على عاتق المنظّمات الدولية جرّاء استمرار هذا الاحتلال. وقد رأى 12 قاضياً أنّ المنظّمات الدولية مُلزَمة بعدم الاعتراف بشرعية الوضع الناشئ عن الوجود غير القانوني للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967، بينما اعترض ثلاثة قضاة على هذا الرأي. وتعلقت القضية التاسعة بالإجراءات التي ينبغي على الأمم المتّحدة القيام بها لتغيير وضع الاحتلال القائم حالياً. وقد رأى 12 قاضياً أنّ الأمم المتّحدة (خاصّة الجمعية العامة ومجلس الأمن) مُلزَمة بالنظر في الإجراءات اللازمة لوضع حدّ في أسرع وقت ممكن للوجود غير القانوني لدولة الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967، بينما اعترض ثلاثة قضاة على هذا الرأي.
نخلص ممّا تقدّم إلى أنّ محكمة العدل الدولية ترى أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 غير شرعي، وأنّ عليها أن تنسحب فوراً من هذه الأراضي، وأن تُفكّك جميع المستوطنات التي أقامتها هناك، وأن تُعوّض الأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين عن الإضرار كلّها التي لحقت بهم جرّاء السياسات والممارسات الإسرائيلية غير القانونية، بما في ذلك عودة اللاجئين وتعويضهم وفقاً لما ينصّ عليه قرار الجمعية العامة رقم 194 لعام 1948، وأنّ على جميع الدول والأمم المتّحدة (خاصّة الجمعية العامة ومجلس الأمن)، اتّخاذ الإجراءات الكفيلة بتصحيح الوضع غير القانوني القائم حالياً.

حسمت محكمة العدل الدولية نهائياً الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967، ولم يعد بمقدور أحد أن يدّعي أنّها أراضٍ "متنازع عليها"

قد يقول قائل إنّ إسرائيل لم تلتزم مطلقاً بأيّ من القرارات الصادرة عن الأمم المتّحدة، بما في ذلك القرارات المُلزِمة الصادرة عن مجلس الأمن، وكذلك الأوامر المُلزِمة الخاصّة بالإجراءات الاحترازية الصادرة عن محكمة العدل الدولية، فكيف لنا، والحال كذلك، أن نتوقّع التفات إسرائيل لفتوى هي بطبيعتها استشارية. غير أن كاتب هذه السطور يختلف تماماً مع هذا الرأي، ويقدّر أنّ محكمة العدل الدولية حسمت نهائياً وإلى الأبد الوضع القانوني للأراضي الفلسطينية المُحتلّة عام 1967، وبالتالي لم يعد بمقدور أحد أن يدّعي منذ الآن فصاعداً أنّها أراضٍ "متنازع عليها"، ما يعني أن الطريق مفتوحة تماماً أمام الجمعية العامة، من الناحية القانونية على الأقل، لكي تضغط بكلّ قوّة على جميع الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة للاعتراف بدولة فلسطينية مُستقلّة عاصمتها القدس الشرقية في الأراضي المُحتلّة عام 1967، وأيضاً لكي تضغط بكل قوّة، وبشكل مُتكرّر على مجلس الأمن لفرض عقوبات على إسرائيل، وذلك بهدف عزلها تماماً، هي والولايات المتّحدة المُستعدّة لاستخدام الفيتو لحمايتها من العقاب عن المجتمع الدولي. وليس من المبالغة القول إنّ صدور هذه الفتوى يخلق بالنسبة لإسرائيل وضعاً مشابهاً للوضع الذي كانت فيه حكومة جنوب أفريقيا خلال حقبتي السبعينيّات والثمانينيّات من القرن الماضي.